الخط الأزرق ليس حدوداً ولا يمكن أن يحلّ مكان الحدود
} العميد د. أمين محمد حطيط*
فجأة «تبرّع» هوكشتاين – الموفد الرئاسي الأميركي الى المنطقة – بموقف يعطي «إسرائيل» ما جهدت لانتزاعه واغتصابه من للبنان وهو إسقاط الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين المحتلة واعتماد حدود جديدة تقتطع من لبنان أرضاً وتغيّر مسار الحدود شكلاً، وهو ما عبّر عنه هوكشتاين بالقول «يجب أن يكون الخط الأزرق هو الحدود الدولية». وبالمناسبة نذكّر بأن لهذا الموقف الأميركي مقدّمات تعود الى العام 2000 تاريخ الاندحار الإسرائيلي من جنوب لبنان.
موقف هوكشتاين هذا يفسّر أيضاً الخريطة التي أرفقها دونالد ترامب في السنة الأخيرة من ولايته في إطار ما أسماه «رؤية للسلام» وسوّقها تحت عنوان «صفقة القرن»، وهي الخريطة التي اشارت إلى الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة بالخط المتقطع وهو اصطلاح في رسم خرائط الحدود يعني أنّ الخط غير نهائي او مؤقت، خلافاً للحقيقة التي تؤكد على نهائية هذه الحدود وثباتها، اما أميركا فإنها تتجه للتنكّر لهذه النهائية وتضع لبنان في دائرة الخسارة. فما هي قصة الحدود وقصة الخط الأزرق وما هي المخاطر التي تحدق بلبنان من جراء الموقف الأميركي وكيف تواجه؟
نبدأ بالحدود ودون الغوص في التاريخ البعيد ننطلق من معاهدة سايكس – بيكو التي جعلت لبنان في نصيب نفوذ فرنسا وشكل خط سايكس بيكو في جزئه الغربي أوّل منطلق حدودي للبنان مع فلسطين المحتلة التي أدخلتها الاتفاقية في النفوذ البريطاني، وبعد ذلك وبضغط من الحركة الصهيونية العالمية التي تسلّحت بوعد بلفور بمنحها فلسطين لتقيم الدولة اليهودية القومية عليها تمّت مراجعة هذا الخط ودحرجته شمالاً على حساب لبنان الى ان استقرّ بشكل نهائي بموجب اتفاقية بوليه – نيوكمب 1923 التي رسمت الحدود بين لبنان وفلسطين ووقعتها فرنسا وبريطانيا بصفتهما دولتي الانتداب وأودعت لدى عصبة الأمم التي أخذت علماً بها ثم صادقت عليها في العام 1924، وأكد على ذلك الدستور اللبناني الصادر في العام في 1926، حيث بات بعد هذا التاريخ أي تعديل للحدود تلك بحاجة إلى تعديل الدستور. ونشير هنا إلى أن لبنان بين 1916 (معاهدة سايكس بيكو) و1923 (اتفاقية بوليه نيوكمب) خسر مساحات واسعة من أرضه في شريط يمتدّ من الساحل غرباً الى الوزاني شرقاً مساحات تشتمل على سهل الحولة والقرى السبع والساحل من الناقورة الى نهاريا.
في العام 1949 وإثر حرب الإنقاذ التي شارك فيها لبنان الى جانب دول عربية أخرى لمنع اغتصاب فلسطين، وبعد ان خسر العرب الحرب أصدر مجلس الأمن وتحت الفصل السابع قراراً ألزم بموجبه الأطراف المتحاربة بوقف النار وعقد هدنة بينها. وفي آذار 1949 وقع لبنان تنفيذاً لهذا لقرار وبعد مفاوضات في رودس، مع «إسرائيل» اتفاقية الهدنة التي أكدت في متنها على انّ خط الهدنة هو نفسه خط الحدود الدولية المحدّد في اتفاقية بوليه نيوكمب 1923 والمرسّم بعلامات حدودية يشار اليها بـ BP أي نقطة حدود وتبدأ برأس الناقورة على ساحل المتوسط وتنتهي بالمعلم BP38، لكن لبنان ولمزيد من الضبط والتثبيت والإيضاح توصل وفي إطار اتفاقية الهدنة الى رسم خريطة لهذا الخط أرفقت باتفاقية الهدنة وأضيفت لها علامات جديدة يرمز اليها بـ B وهي وسيطة بين العلامات السابقة ما أصبح مجموعه 143 نقطة. وقد حرصت لجنة مراقبة الهدنة الثلاثية المتشكلة من الأمم المتحدة ولبنان و»إسرائيل» حرصت على تعليم هذه النقاط وتعهّد صيانتها على الأرض بشكل دوري، لكن «إسرائيل» أقدمت في 29 حزيران 1967 ومن جانب واحد على إلغاء اتفاقية الهدنة تلك ووقف العمل باللجنة الثلاثية المنبثقة عنها، الأمر الذي رفضته الأمم المتحدة ورفضه لبنان الذي تمسك بالاتفاقية ولا يزال.
في العام 1978 أقدمت «إسرائيل» على احتلال قسم من لبنان فأصدر مجلس الأمن القرار 425 الذي يلزمها بالانسحاب من غير قيد أو شرط الى الحدود الدولية، لكن «إسرائيل» وكعادتها لم تستجب للقرار بل كررت اجتياحها ووسعته حتى بلغت بيروت فأصدر مجلس الأمن قرارات متلاحقة أكد فيها على القرار 425 ولم تذعن «إسرائيل» لها، فتشكلت مقاومة في لبنان عملت 18 عاماً حتى أكرهت «إسرائيل» على الانسحاب مهزومة من لبنان في أيار العام 2000، وحتى تحجب هزيمتها ادّعت انها تريد تطبيق القرار 425 وطلبت من الأمم المتحدة تنظيم مفاوضات مباشرة مع لبنان لاعتماد تدابير أمنية لصالح الامن الإسرائيلي فرفض لبنان الطلب وجاء فريق دولي للتحقق مع لبنان من اكتمال الانسحاب.
كان منطقياً أن يعتمد الفريق الدولي خط الحدود الدولية المنصوص عليه في القرار 425 أساساً للتحقق من الانسحاب الإسرائيلي، لكن وللأسف لم يكن سلوك هذا الفريق مطابقاً للقانون والمنطق، حيث ادّعى بأنّ الأمم المتحدة لا تملك نسخة عن الخريطة المرفقة باتفاقية الهدنة بعد أن تسرّبت المياه الى مستودع الخرائط في نيويورك وأتلفتها فاضطر رئيس قسم الخرائط لدى الأمم المتحدة ميكولاس بنتر الى رسم خط يعتبره الأقرب الى الحدود الدولية وعرض علينا هذا الخط، حيث كان العماد إميل لحود رئيساً الجمهورية والذي عيّنني رئيساً للجنة العسكرية اللبنانية التي أنيط بها التحقق من اكتمال الانسحاب الإسرائيلي.
لدى التدقيق تبيّن لنا أن خط بنتر الجديد يخرج عن الحدود الدولية في 13 منطقة ويقتطع أرضاً من لبنان ويضمّها الى فلسطين المحتلة، كما أنه يقتطع كامل مزارع شبعا وتلال كفر شوبا ويضمّها الى الجولان السوري المحتلّ مع قسم من خراج بلدة الماري الذي يضمّه إلى الغجر السورية المحتلة منذ العام 1967.
طبعا رفضنا المشروع – المقترح الدولي وتمسكنا بالحدود الدولية المنصوص عليها في القرار 425 وجرى نقاش مع الفريق الدولي بقيادة تيري رود لارسن ممثل الأمين العام للأمم المتحدة حول الموضوع وتوصّلنا في نهاية اجتماع عُقد في قصر بعبدا برئاسة العماد إميل لحود رئيس الجمهورية الى تراجع الأمم المتحدة عن مقترحها في 10 مناطق وتمسكت بمشروعها في 3 نقاط هي رميش والعديسة والمطلة، أما مزارع شبعا وبعد أن سلمت الأمم المتحدة بلبنانيتها وفقاً للموقف اللبناني والسوري، زعم لارسن أنّ الصلاحية العملانية فيه هي للـ «أندوف» وليست لليونيفيل في بدعة ابتدعها!
تحفّظ لبنان على الموقف الدولي وسجل لارسن التحفظ اللبناني هذا وأبلغه للأمانة العامة للأمم المتحدة وقام بعد ذلك هو وفريقه برسم الخط باللون الأزرق ليعتمده أساساً للتحقق من الانسحاب وأدرج في هذه الخريطة عبارة «انّ هذا الخط هو خط مؤقت للتحقق من الانسحاب ولا يمسّ بالحقوق المكتسبة الناشئة عن الاتفاقيات المثبتة للحدود الدولية». وبالفعل خرجت «إسرائيل» من الأرض اللبنانية كلها بما فيها المناطق التي حاول لارسن اقتطاعها باستثناء 3 منها ومزارع شبعا، والمهمّ في نهاية الامر أنّ الأرض تحررت وتمسكنا بالحدود الدولية ولم يطرح أحد لا من قريب أو بعيد مسألة ترسيم جديد للحدود مع فلسطين المحتلة. وهنا أذكر سؤال العماد لحود للمستشارة القانونية للوفد الدولي السيدة ليلى بنقيان حيث سألها من يرسم الحدود بين الدول؟ أجابت «الدول نفسها وليس الأمم المتحدة»، وكان ذلك إقراراً واضحاً بأنّ الخط الأزرق ليس حدوداً وأنه لا يمسّ بالحدود وهو لم يوقع من قبل الطرفين بل بقي في عهدة الأمم المتحدة للعمل به تحققاً من الانسحاب.
في العام 2006 شنت «إسرائيل» عدواناً على لبنان واحتلت مجدداً المناطق الـ 13 المشار اليها أعلاه، ورغم انّ القرار 1701 الذي أوقف الأعمال القتالية نص على وجوب الانسحاب من كلّ الارض اللبنانية وإيجاد حلّ لمزارع شبعا. فإنّ «إسرائيل» لم تنفذ وخرجت مدعومة بأميركا بمقولة ترسيم الحدود البرية مقولة ترمي بها الى ضمّ المناطق المحتلة تلك، ووقع قسم من اللبنانيين في هذا الفخ اللفظي وردّدوا بشكل ببغائي هذه العبارة، فرفضنا هذا السلوك وقمنا بتوضيح ما ينبغي توضيحه الى ان اتخذ الموقف اللبناني الصارم في النهاية من قبل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في الأمم المتحدة والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله رفضاً لأيّ ترسيم جديد وتمسكاً بحدود بوليه – نيوكمب وبمزارع شبعا.
اليوم نرى انّ طرح الضابط الإسرائيلي السابق والموظف الأميركي حالياً اموس هوكشتاين باعتبار الحدود هي الخط الأزرق المتحفظ عليه لبنانياً والذي يقتطع ارضاً من لبنان ليمنحها للكيان الصهيوني انما هو اعتداء على لبنان وانتهاك لدستوره يوجب على المسؤولين اللبنانيين الوقوف صفاً واحداً في مواجهته رفضاً لأيّ ترسيم وتمسكاً بالحدود واعتبار المناطق الـ 13 مع مزارع شبعا وخراج الماري أرضاً لبنانية محتلة على «إسرائيل» الخروج منها، فلبنان بحاجة الى تحرير أرضه من الاحتلال وليس بحاجة الى تكريس الاحتلال بترسيم جديد.
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي.