أولى

ما بعد غزة والسيناريوات المحتملة…

‭}‬ د. محمد سيد أحمد
منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى وما أحدثته من تغيير في موازين القوى في المنطقة، خاصة بروز قوة المقاومة في مواجهة العدو الصهيوني، وعودة القضية الفلسطينية لصدارة الاهتمام على المستوى العالمي، والكلّ يبحث عما سوف يحدث بعد غزة، وفي هذا الإطار جاءتني دعوة هذا الأسبوع من منتدى التفكير الاستراتيجي الذي أسّسه الكاتب الصحافي الكبير والمفكر القومي العربي اللبناني الأستاذ ناصر قنديل، للمشاركة في جلسة حوارية بعنوان: سيناريوات المواجهة مع الكيان، والتي تتضمّن ثلاثة سيناريوات… الأول هو سيناريو الحرب الكبرى، والثاني هو سيناريو تفكك الكيان، والثالث هو سيناريو الدولة الفلسطينية. وخيّرني الأستاذ ناصر باختيار أحد السيناريوات لإعداد مداخلة حوله، وكان اختياري وفقاً لقناعاتي وقراءتي للمشهد الراهن للسيناريو الثاني وهو سيناريو تفكك الكيان. وهنا تولى الكاتب والمحلل الاستراتيجي الكبير الدكتور اللواء حسن الحسن الحديث عن سيناريو الحرب الكبرى، وقام الأستاذ ناصر قنديل بتقديم مداخلته عن سيناريو الدولة الفلسطينية.
وفي محاولة تقديم قراءة للسيناريوات المحتملة وجدت أنّ سيناريو الحرب الكبرى معقد للغاية وهناك صعوبة كبيرة في تحقيقه على أرض الواقع، خاصة أنّ القوى الكبرى على المستوى الدولي سواء الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الغربيون، أو القوى الناشئة المنافسة، والتي تسعى لتأسيس نظام عالمي جديد ثنائي القطبية تكون روسيا والصين على طرفه الثاني، ليسوا على استعداد لنشوب مثل هذه الحرب، التي ستكون حتماً حرباً عالمية جديدة ومدمّرة، بل إنّ هذه الأطراف وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية نفسها الداعم الأول للعدو الصهيوني لا تسعى لتوسيع دائرة الحرب في هذه المنطقة من العالم، فكلما تسارعت كرة اللهب لقيام حرب إقليمية موسعة تدخلت الولايات المتحدة الأميركية لتبريدها، ذلك لقناعتها بأنّ هذه الحرب الإقليمية الموسعة يمكن أن تتحوّل إلى حرب عالمية كبرى. وهذا الأمر ليس في صالحها ولا في صالح الكيان الصهيوني المزروع داخل منطقتنا لتنفيذ الأجندة الأميركية، فما زالت القوى الكبرى في العالم تخوض حرباً باردة، وما زالت القوى الإقليمية الكبرى هي الأخرى تخوض الحرب الباردة نفسها وليست لديها الرغبة ولا الإمكانية حتى الآن لتحويل هذه الحرب الباردة إلى حرب ساخنة ومواجهة عسكرية كبرى ومباشرة مع العدو الصهيوني.
أما سيناريو الدولة الفلسطينية فكانت قناعتي قبل مداخلة الأستاذ ناصر قنديل ترى أنّ هذا السيناريو أشبه بالمستحيل، فالعدو الصهيوني ومن خلفه العدو الأميركي لن يسمحا بهذا السيناريو لأنه ضدّ العقيدة الصهيونية التي أنشئ الكيان من أجلها. فالآباء الصهاينة المؤسّسون من أمثال هيرتزل وروتشيلد ومن بعدهم بن غوريون بنوا مشروعهم على فكرة «إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات»، وأولى خطوات تحقيق هذا الهدف هو الحصول على جزء من الأرض العربية الفلسطينية وهو ما تمّ فعلياً وباعتراف دولي من الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة بالقرار رقم 181 الصادر في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 والقاضي بتقسيم فلسطين الانتدابية إلى ثلاثة أقسام دولة يهودية صهيونية، ودولة عربية فلسطينية، وتدويل القدس. وعلى أرض الواقع قام الكيان الصهيوني بتأسيس دولته المزعومة، في الوقت الذي لم يُسمح للشعب الفلسطيني صاحب الأرض بإقامة دولته المستقلة على مدار ما يقرب من ثمانين عاماً، وحتى القسم الثالث الخاص بالقدس فقد تمّ تهويده والإعلان عن أنه عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، فكيف لهذه العقلية الصهيونية التي لا تزال تحكم حتى الآن ممثلة في رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو أن تقبل بمثل هذا الحلّ وهي التي تخوض حرب إبادة لشعبنا العربي الفلسطيني في غزة؟
لكن مداخلة الأستاذ ناصر قنديل أقنعتني إلى حدّ ما بأنّ القوى الدولية الكبرى الولايات المتحدة الأميركية من جانب وروسيا والصين من جانب آخر يمكنها الوصول إلى هذا الحلّ كمحطة من محطات الصراع، رغم أنني أشكّ كثيراً في إمكانية الوصول إلى هذا السيناريو.
وبالطبع يأتي السيناريو الأبرز والأقرب للتحقيق على أرض الواقع هو سيناريو تفكيك الكيان والذي يتطلّب جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً، ولكننا نرى أنّ التربة مهيأة لتفكيكه لأنه لا ينطبق عليه مفهوم الوطن. فإذا كان الوطن هو «المكان الذي يولد ويقيم فيه الإنسان مع جماعة من الناس، يربطه بهم التاريخ والحدود الجغرافية والمصالح المشتركة، والشعور بالانتماء أمر فطري، لكن من يدعم هذا الانتماء ويعززه هو الشعور بأن هذا الكيان يحمي الإنسان، ويسهّل عليه أمور حياته، ويكفل له حقوقه، في مقابل ما يلزمه نحوه من واجبات»، أما الكيان الصهيوني فقد تمّ بناؤه على أرض مسروقة تمّ الاستيلاء عليها بالقوة، وتمّ جلب المستوطنين إليه بالحيلة والوعود الكاذبة، وتسيطر على المستوطنين المصالح الشخصية، ولا يوجد أيّ انتماء فطري لديهم، ولا يوجد تاريخ مشترك، ولا يشعر المستوطنون بالأمان، ولا يشعرون بأنّ الكيان يحميهم، أو يسهّل لهم أمور حياتهم، والكيان عنصري لا يكفل لهم حقوقهم، لذلك تنتفي فكرة الوطن من الأساس، لذلك يمكننا العمل على تفكيك الكيان الهشّ عبر المقاومة وحرب الاستنزاف، واستثمار حالة عدم الثقة بين حكومة اليمين المتطرف والمستوطنين الذين أصبحوا على قناعة بأنّ هذه الأرض ليست هي أرض الميعاد التي وعدهم بها الرب في كتابهم المقدس كما أوهمهم الآباء المؤسسون للصهيونية العالمية، لذلك قام الآلاف من المستوطنين بالهجرة العكسية، والعودة إلى البلدان التي كانوا يستقرّون فيها هم وآباؤهم وأجدادهم قبل توطينهم على الأرض العربية الفلسطينية…
هذا هو السيناريو الأقرب إلى التحقيق ما بعد غزة، وهو ما يجب أن تعمل عليه قوى المقاومة، وهو الأمل الوحيد الباقي لزوال هذا الكيان، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى