أولى

التناسب العكسي بين التوحّش والردع

‭}‬ بقلم د. حسن أحمد حسن*
قريباً يجثو بنيامين نتنياهو على ركبتيه مطرقاً بنظره إلى الأرض ونادباً حظه العاثر بعد التثبّت واليقين من العجز عن تنفيذ أيّ أمرٍ وعد به المستوطنين الذين هالهم ما يرونه كل يوم من بقاء مظاهر الحياة في غزة، مع أنّ سماءها منذ قرابة ثمانية أشهر وهي تمطر ناراً وجحيماً وموتاً وتدميراً وإبادة لم تشهد لها البشرية مثيلاً على امتداد تاريخها الطويل. وعلى الرغم من ذلك كله فغزة لا تزال تتنفس كرامة وتحدياً، وتثبت للعالم أجمع حقيقة التناسب العكسي بين التوحش والردع، فكلما ازدادت حدة القصف والتدمير وتضاعفت أعداد الشهداء والجرحى، وعمّت مظاهر الإبادة المتعمّدة، وامتدّت ألسِنة لهبها المستعر والممنهج ازداد الفلسطينيون تمسكاً بحقوقهم، وتجذراً بأرضهم، وصلابة في مواجهة ترسانات القتل والتدمير والإبادة، وكلما تغوَّل الاحتلال القاتل أكثر، وأوغل في سفك دم الأطفال والنساء وبقية المدنيين الأبرياء كلما أبدع المقاومون الفلسطينيون في تعفير أنوف جنرالات الكيان المؤقت بأوحال العجز وتآكل ما تبقى من معالم ردع لفظ أنفاسه، ولا أمل باستعادة النبض إليه بعد أن تجلطت الدماء وتآكلت بدورها المحرّضات الأميركية على اختلاف أنواعها ونماذجها جراء تكرار محاولات الصدم الكهربائي والإنعاش، وذهب كلّ ذلك عبثاً، فالردع الميت غدا جثة، وإنْ بقيت تحتفظ ببعض حرارة لن تطول بعد أن تُرِكَتْ في العراء عارية إلا من حقيقة الفعل الإعجازي المقاوم.
قرابة ثمانية أشهر وإرادةُ العالم مصادرةٌ بالجبروت الأميركي الذي استنفر الأساطيل وحاملات الطائرات والمدمرات ومنصات الصواريخ الأكثر فتكاً في العالم… قرابة ثمانية أشهر ومنصات المنظمة الدولية معطلة أو شبه معطلة لضمان أمن الكيان وإطلاق يده أكثر في الإجرام والإبادة والتهجير القسري…
ثمانية أشهر تقريباً ومواكب الشهداء تتالى من أطفال ونساء ومرضى وطواقم صحية وإعلامية وإغاثية، ولم تتغيّر اللوحة التي رسمتها جباه المقاومين وسواعدهم في السابع من تشرين الأول من العام الماضي… قرابة ثمانية أشهر وقوى البغي والشر والعدوان والإجرام تكشر عن أنيابها أكثر لتخيف كل أنصار نهج المقاومة، وترعب الجميع وتردعهم عن نصرة غزة العزة والبقاء واليقين، وهيهات لأولئك القتلة المجرمين أن يفلحوا هيهات، فجميع معطيات الواقع والميدان تؤكد أن لا أفق يوحي بإمكانية كسر إرادة المقاومين، بل العكس هو ما يظهر بوضوح في الأفق للأعمى والمبصر بآنٍ معا، لمن يريد أن يرى الحقيقة كما هي بعيداً عن الكذب والنفاق والتضليل، وليس أمام نتنياهو وزبانيته إلا الإقرار بهزيمة نكراء مكتملة الأركان وقد أحاقت بهم، وما تزال فصولها تتالى على مدار الساعة، فما كان ممكناً بالأمس أضحى اليوم عسيراً، وما كان صعباً غدا شبه مستحيل، وما تمّ تمريره على مدار عقود من سرديات باطلة ولا صحة لها أساساً غدت اليوم واضحة للعيان لدى القاصي والداني، وعلى نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وبقية الشركاء في حرب الإبادة والإجرام أن يتقاسموا النسب المئوية في ما بينهم، بغضّ النظر عن حجم الأهوال التي تنتظرهم وتقترب منهم جميعاً بلا استئذان، وما ارتفاع حدة الأصوات التي تطالب بإطلاق رصاصة الرحمة على حكومة النتن داخلياً وإقليمياً وعالمياً إلا الدليل القاطع على أنّ عمر حكومة الإبادة الجماعية والتهجير القسري التي يتزعّمها نتنياهو يقصر كلّ يوم، وليس أمام مصّاصي الدماء في تلك الحكومة الفاشية بإزار معصرن إلا انتظار إطلاق صافرة انتهاء المباراة وخسارة جميع اللاعبين على أرض غزة الأبية الصامدة المنتصرة رغم أنهار الدم المسفوح ظلماً وغدراً وعدواناً، وقد آن لذلك كله أن يتوقف اليوم قبل الغد.
إنّ تبلور مواقف علنية واضحة ومعاكسة عما كانت عليه بالأمس القريب لدى بعض الدول والأطراف التي لطالما عُرِفَتْ بمحاباة تل أبيب لا يعني أنّ دعم تلك الأطراف لكيان الاحتلال قد انتهى، ولا يعني أن تلك المواقف ستُلزم القتلة على تبديل جلدهم الإجرامي المقيت، إلا أنها تبقى خطوة في الاتجاه الصحيح، وتحتاج إلى استكمال، وبمجرد أن يتكوّن مثل هذا السلوك الجديد ولو في بداياته، فهذا يحمل ذاتياً إمكانية التزخيم والتوسع والانتشار، وهي متوافرة بما يكفي بفضل صمود الفلسطينيين وبقية جبهات الإسناد التي لا تزال تتعامل بأداء ميداني مضبوط الإيقاع، ومع ذلك فإن مخرجات الميدان تتضمّن المفاجآت التي تركت آثارها على الداخل الإسرائيلي المأزوم جراء انسداد الأفق وتضاءل السيناريوات المحتملة والممكنة، فما عسى كابينيت الحرب المصغر بزعامة نتنياهو أن يفعل بعد أن جرّب كل ما يخطر ولا يخطر على الذهن من إجرام وبطش وإبادة وتوحّش، ولم يسفر كلّ ذلك إلا عن التأكد من قدرة المقاومة الفلسطينية على إطلاق الصواريخ باتجاه الداخل المحتلّ بعد ثمانية أشهر ونصف الشهر، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالعجز عن العودة للتقدم حتى في شمال قطاع غزة الذي تمّت تسويته بالأرض في جباليا وغيرها منذ أشهر، وبالأمس القريب ينتشر فيديو جديد لأبي عبيدة وهو يزفّ بشرى إيقاع قوة إسرائيلية حاولت التقدّم فأرغمها المقاومون الفلسطينيون على تقاسم ثلاثة مسمّيات: (قتيل ــ مصاب ــ أسير)، ولن يفيد الناطق باسم جيش الاحتلال نكران ذلك، فالآتي من الأيام كفيل بابتلاع اللسان الذي أنكر، وإطلالة سريعة على ما يتناوله الإعلام العبري تقدّم صورة متكاملة الأبعاد لكل من يريد رؤية الحقيقة كما هي، فأهمّ مراسلي موقع «واللا» الإسرائيلي أمير بوخبوط يعلن أنه زار أمس القيادة الشمالية وسمع (هناك الكثير من أصوات الهزيمة)، وسبقه إلى اعترافات أشدّ وقعاً وأخطر دلالة واحد من أهم الكتَّاب والصحافيين الإسرائيليين جدعون ليفي الذي غصت منصة /TikTok/ بمقطع تلفزيوني له وهو يعترف بأنه وغيره من المستوطنين يقفون ويرون أعداد الضحايا في غزة، وعندما يشاهدون أي قنوات إعلامية دولية تتحدث عما يجري في غزة فإنه وكما قال بالحرف: (أشعر بعار لكوني إسرائيلي)، ويضيف: («إسرائيل» لم تكتسب أي شيء من هذه الحرب، حالة «إسرائيل» اليوم بعد ثمانية أشهر من القتل الجماعي بحق عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وغالبيتهم من الأبرياء… «إسرائيل» الآن في أسوأ وضع مرّت به من قبل… حماس أقوى من أيّ وقت مضى، و»إسرائيل» أضعف من أيّ وقت مضى، وأصبحت دولة منبوذة… هذه الحرب أكبر وصمة عار منذ تأسيسها). وإذا أضفنا إلى هذا وذاك آخر استطلاعات الرأي التي تمّ إجراؤها داخل المستوطنين من قبل جهات إسرائيلية، فما الذي يستخلصه كل من لديه ذرة من عقل طالما أن نتائج الاستطلاعات تؤكد أن 70% من الإسرائيليين يرغبون بإزاحة رئيس الوزراء والتعجيل بإجراء انتخابات، وفي المقابل تؤكد كبريات الصحف الأميركية والأوروبية: نيويورك تايمز ــ فاينشال تايمز ــ الغارديان وغيرها استحالة تحقيق الانتصار على حماس، وأن إجراءات محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدولية تؤكد حاجة «إسرائيل» الآن أكثر من أي وقت مضى إلى «قيادة مسؤولة ورصينة» ونتنياهو لا يستطيع توفيرها ولا يرغب بذلك.
خلاصة
الفرق كبير بين امتلاك القوة التدميرية والإفراط في استخدامها بوحشية وهمجية، وبين فرض الردع على من يمتلك إرادة الحياة، والاستعداد للتضحية في سبيل الكرامة والحقوق. فالمزيد من الإجرام يقابله مزيد من الصمود والتصميم العصيّ على المصادرة، وترميم الردع المتآكل أبعد منالاً بأضعاف ما يتطلبه بناء ردع مدروس ومتزن وممنهج، والحديث اليوم يتركز على زيادة احتمال سقوط الحكومة، وتفادياً لذلك يستعدّ نتنياهو لحلّ مجلس الحرب بعد الإنذار الذي وجّهه إليه بيني غانتس. وهذا يعيدنا للصورة التي تحدّثنا عنها في بداية المقال، فنتنياهو اليوم وكأنه يجلس القرفصاء إن لم يكن جاثياً، ويستجدي منادياً بأعلى الصوت: «من مال الله يا محسنين» بالتزامن مع مرور بن غفير وسموتريتش من اليمين، ولابيد وبيني غانتس وغيرهما من الشمال، وسرعان ما يأتيه الإحسان من اليمين بركلة على الظهر لينكبّ على وجهه، وقبل وصول الرأس إلى الأرض يتلقى ركلة أقوى في الاتجاه المعاكس ليلتصق ظهره بالأرض، والركبتان ما تزالان مثنيتين مما يزيد الوضع تعقيداً لتبقى النتيجة مبهمة بين احتمالين لا ثالث لهما: فالنتن إما أنه كان يجلس القرفصاء، أو كان جاثياً… وفوق كل ذي علم عليم، والله أعلم.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى