كيف نجحت المقاومة الفلسطينية في زمن قياسي بتحويل غزة إلى فيتنام جديدة…؟
} حسن حردان
تشير كلّ وقائع الميدان في قطاع غزة إلى أنّ حرب الإبادة الصهيونية لسحق المقاومة والقضاء عليها اتخذت منحى شبيهاً بحرب أميركا في فيتنام في ستينيات والنصف الأول من سبعينيات القرن الماضي نتيجة المقاومة الضارية، مما أوقع جيش الاحتلال الصهيوني سريعاً، وفي زمن قياسي، في عقدة مماثلة لعقدة فيتنام… وهو ما تجسّد في بعدين:
أولاً، استمرار فشل جيش الاحتلال الصهيوني في القضاء على المقاومة الفلسطينية، او في إضعاف قدراتها على مواصلة القتال بضراوة، او العجز على النيل من بأس مقاتليها وإقبالهم على القتال بعزم وتصميم وثبات من دون أن تظهر في صفوفهم اي مؤشرات على وهن او ضعف في معنوياتهم واستعدادهم لخوض القتال من مسافة صفر بلا خوف او تردّد من مواجهة احتمال الاستشهاد في اي لحظة…
يحصل ذلك رغم الاختلاف الكبير في موازين القوى لمصلحة جيش الاحتلال المدجّج بأحدث الأسلحة الأميركية، وإقدامه على تنفيذ استراتيجية الأرض المحروقة التي دمّر من خلالها كلّ مقوّمات الحياة في غزة وارتكب المجازر المروعة ضدّ الأطفال والنساء والرجال في محاولة يائسة لإضعاف جذوة المقاومة وحاضنتها الشعبية، حيث أكدت الوقائع انّ هذه السياسة الإسرائيلية لم تفلح في تأليب البيئة الشعبية ضد المقاومة، بل انها زادت من تحدّيها للإرهاب الصهيوني النازي، حتى أصبح الغزيون معتادين على تلقي أنباء ارتكاب العدو المزيد من المجازر والمحارق بحق عائلاتهم، والتي كان آخرها قصف طائرات العدو مخيمات النازحين في غرب رفح والمواصي، مما أوقع عشرات الشهداء والجرحى، لكن ذلك لم يمكن العدو من تحقيق مراده من وراء هذه المجازر.. حيث فشل في هدفيه اللذين يسعى إليهما من إيغاله في سفك دماء المواطنين الفلسطينيين.. وهو ما تجلى في أمرين:
الأمر الأول، الفشل في دق إسفين بين الشعب الفلسطيني ومقاومته.
الأمر الثاني، الفشل في النيل من صمود الغزيين ودفعهم إلى الهروب من مواجهة الاستشهاد بنيران المحرقة النازية التي ينفذها جيش الاحتلال ضدهم، إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، وذلك في تأكيد منهم على عدم السماح للعدو بتكرار نكبة فلسطينية ثانية على غرار نكبة 1948، والتمسك بالبقاء والصمود في أرض فلسطين وتحمّل معاناة النزوح بين منطقة وأخرى، حتى ولو أدى ذلك إلى استشهاد المزيد منهم..
ثانياً، غرق جيش الاحتلال أكثر فأكثر، في مستنقع من الاستنزاف، حيث نجحت المقاومة في إعداد العدة لخوض حرب طويلة النفس وفق قواعد حرب العصابات والمدن، واستدراج قوات الاحتلال إلى الوقوع في الكمائن والأفخاخ التي نصبتها وأوقعتها فيها، وبالتالي تمكنها من تكبيد جيش العدو خسائر فادحة في الأرواح والمعدات خلال شهور، على نحو غير مسبوق، كان من الصعب على مقاومات الشعوب تحقيقها في السابق ضدّ جيوش الاحتلال، في خلال هذه المدة القصيرة، حيث احتاجت إلى سنوات.. في وقت نجحت المقاومة الفلسطينية في ثمانية أشهر بتدمير واعطاب أكثر من 1500 دبابة ومدرّعة وآلية، وقتل وجرح عشرات الآلاف من ضباط وجنود الاحتلال.. والحبل على الجرار، كما تشير تطورات المعارك الضارية التي تخوضها المقاومة هذه الأيام في كل المناطق.. على أنّ الأسباب التي مكنت المقاومة من تحقيق هذه الإنجازات الميدانية إنما تعود إلى العوامل التالية:
العامل الأول، بناء بنية تحتية للمقاومة وفق استراتيجية تؤمّن كلّ المقومات والوسائل الضرورية لخوض حرب طويلة النفس، واستنزاف جيش الاحتلال بوتيرة متصاعدة ومستمرة، وتحول دون قدرة العدو على النيل من هذه البنية..
العامل الثاني، استفادة المقاومة بشكل جيد ومبدع من تجارب ودروس مقاومات الشعوب المنتصرة ضد جيوش الاحتلال، إنْ كان لناحية أساليب حرب العصابات والمدن وتطوير اساليبها، أو لناحية بناء مدن أنفاق حديثة تحت الأرض، مستفيدة من التقنيات الحديثة التي مكنت المقاومة أيضاً من امتلاك وسائل وقدرات قتال أكثر فعالية في رفع كلفة الاحتلال واستنزافه في زمن قياسي.. كانت تحتاج في السابق إلى سنوات..
العامل الثالث، فتح قوى المقاومة في لبنان واليمن والعراق جبهات المواجهة مع كيان الاحتلال دعماً وإسناداً لغزة ومقاومتها، وبالتالي انضمامها إلى جانب المقاومة الفلسطينية في شنّ حرب استنزاف عالية الكلفة ضدّ العدو زادت من فاتورة عدوانه على غزة…
هذه العوامل أدّت من ناحية إلى إفشال أهداف جيش الاحتلال في القضاء على المقاومة، او استعادة أسراه بدون شروط، وعززت موقف المقاومة في المفاوضات، كما أدّت من ناحية ثانية إلى غرق جيش الاحتلال في ما بات يُعرف بـ «وحل غزة» او رمال غزة المتحركة، او مستنقع غزة، نتيجة وقوع قوات الاحتلال في كمائن وشباك وأفخاخ المقاومة التي أجادت في نصبها.. مما أدّى إلى نجاح المقاومة في قتل وجرح إعداد كبيرة من ضباط وجنود العدو.. وولد سريعاً تداعيات على مستويين:
المستوى الأول، تفجير الصراعات والتناقضات والانقسامات داخل كيان الاحتلال، بين مؤيد لوقف النار وتبادل الأسرى، ومؤيد لمواصلة الحرب ورفض القبول بشروط المقاومة لوقف النار أولاً قبل إنجاز تبادل الأسرى.
المستوى الثاني، توليد عقدة فيتنام داخل جيش الاحتلال، على خلفية النزف الكبير والإنهاك والضعف في معنوياته وتحوّل آلاف الجنود المصابين الى معوقين مصابين بالأمراض النفسية التي باتت تتفشى في وسطهم، وتؤدّي إلى تكرار حالات الانتحار بينهم، الأمر الذي أحدث سريعا ظروفا مشابهة لعقد فيتنام التي أصابت جيش الاحتلال الأميركي، داخل صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي.. ومعلوم انّ عقدة فيتنام التي تفشت بين صفوف الجنود الأميركيين وداخل أميركا، وتسبّبت في التمرّد على الخدمة العسكرية في فيتنام، وتفجر انتفاضة أميركية شعبية ضدّ الاستمرار بالحرب في فيتنام، كانت هي التي أنضجت الظروف التي أجبرت الإدارة الأميركية على اخذ قرار الانسحاب تحت ضربات مقاومة الفيتنكونغ..