الميراث وقطيعة الأرحام
} سارة طالب السهيل
يعاني عالمنا العربي والإسلامي من تمزق أسري أكاد أجزم أنه قد نزع البركة والمحبة من القلوب والتراحم بين أبناء الجسد الواحد بسبب الميراث، فسجلات القضايا أمام ساحة القضاء تجزم بأنّ ما يقارب من سبعين بالمئة من القضايا المنظورة سببها النزاع على الميراث.
ونسيّ البعض ان الإرث الحقيقي الذي يتركه الأبوان هو حسن التربية والتعليم والمساواة بين أبنائهم وبناتهم وهو إرث اخلاقي متمثّل بحسن الخلق والسلوك والسمعة الحسنة، وكما يقال في الأثر الشعبي: «الدم تحوّل الى ماء ومعادن الإخوان تظهر في الميراث»، فهذه حقيقة أثبتتها الوقائع اليومية في معظم بلادنا التي ترتِّب عليها قطيعة الأرحام لسنوات طوال والتآمر والسرقة والنهب والتزوير وصولاً لقتل النفس التي حرّم الله الا بالحق.
فالرحم الواحد الذي خرج منه ذكور وإناث تربّوا معاً وأكلوا طعاماً واحداً وتلقوا قسطاً من التعاليم الدينية بالمدارس والجامعات كان ذلك كفيلاً بمعرفة الحقوق الأسرية والحقوق الشرعية بالميراث، مع ذلك فإنّ الإخوة المتحابين الذين يظهرون أمام المجتمع كلحمة واحدة سرعان ما يتحوّلون الى أعداء عقب والدهم او والدتهم بسبب تقسيم الميراث، فجأة يتناسون رابطة الدم والأخوة ويقفون أمام القاضي خصوماً تحكم قلوبهم العداوة والبغضاء، فلا يتزاوَرون ولا يكلم بعضهم بعضاً، بل يكيد بعضهم المكائد للآخر من أجل مال زائل وضلال عن شريعة العدل التي شرّعها الله لعباده، والنتيجة خسارة الأسرة لأبنائها.
ساحات القضاء في عالمنا الإسلامي تشهد على جرائم سلب حقوق الميراث للأخوات الشقيقات وزوجة الأب واليتامى، وسلب الأخ الأكبر لحقوق باقي إخوته ذكوراً وإناثاً، وتضيع حقوق الورثة بأساليب مختلفة منها موروثات اجتماعية جاهلية تنتصر للقوي على الضعيف وللذكر على الأنثى، ويلجأ سالبو الحقوق الى السب والشتم والضرب وحتى القتل لنهب ما ليس من حقهم من الميراث.
وزوجة الأب قد تكون أكثر الفئات من ضحايا الميراث، فقد يرفض الأولاد الذكور للمتوفي مقاسمة الإرث مع امرأة يرونها غريبة عنهم، خاصة اذا أنجبت أولاداً، وبمجرد وفاة والدهم يكيدون لزوجة الأب المكائد الشيطانية لكي يخرجوها صفر اليدين عن «التركة».
وقد يستحوذ الإبن الأكبر على الميراث كما في بعض مناطق البادية والأرياف بدعوى انه شريك الأب في جمع ثروته، ونتيجة تربية أمه له تربية أنانية وإفراطها في منحه المزايا الأسرية على حساب باقي أشقائه.
ورغم انّ قوانين الميراث في دولنا العربية تستمدّ موادها من الشريعة الإسلامية، وتحدّد حصّة كلّ فئة من الميراث وهو تحديد إلهي وقد فصّلت في سورة النساء، كما في قوله تعالى: «وللرجال نصيبٌ مما ترك الوالدان وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً»، وهدف الخالق العظيم من هذا التحديد إقامة العدل وتحقيق السلام النفسي والاجتماعي بين أفراد الأسرة، ولكن الثقافات الموروثة قبل الإسلام والأنانية والأطماع البشرية ترفض الانصياع لأمر الله وأحكامه وحدوده في شريعته الغراء. فالشريعة عندما جعلت للأنثى حصة في الميراث مقابل حصتين للذكر لأنه يتحمّل مسؤولية الإنفاق عليها، لكن الثقافة الجاهلية الموروثة حرمت المرأة من حقها في الميراث وتعتبره حقاً للذكر دون الأنثى، كما أننا لو حسبناها جيداً سنجد انّ في القوانين الشرعية الإسلامية لـ «لتركة» فللبنات حصة أكبر، فإنْ كنّ نساء فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ما ترك…»
والقوانين المعمول بها في بلادنا العربية تقرّ بحقوق الأنثى كاملة وفقاً للشرع، وتحصل عليها اذا طالبت بها في ساحات القضاء، ولكنها قد تحرم من هذه الحقوق لأسباب عديدة منها التزوير والتلاعب أو إجبارها على التنازل حتى لا تخسر أسرتها او بالتخجيل او الابتزاز والتهديد.
الغريب في الأمر، وبحسب استقصاء الدارسين المتخصصين لجلسات المحاكم، فإنّ معظم الأشقاء المسؤولين عن ميراث شقيقاتهم مثقفين ويشغلون مناصب رفيعة في مجتمعاتهم، وبعضهم يتمتع بالثراء، ولكنهم عند تقاسم الميراث سرعان ما يتحوّلون الى وحوش ضارية يخططون وينصبون شراك المكائد لشقيقاتهم لمنعهم من الحصول على حقوقهم الشرعية بالميراث بزعم انّ أموال والدهم لا يجب ان يتمتع بها زوج الأخت، ومع ذلك قد يسمحون ببعض «التركة» للإناث من الذهب والأموال كما في بعض الحالات في الجزائر، في مقابل حرمانها من الأراضي والعقارات، بدعوى انّ الرجال هم من تولوا رعاية الأراضي الزراعية والعقارات مع والدهم ولا يجب ان يشاركهم الأصهار وهم أزواج الشقيقات فيها، حتى ولو تسبّب ذلك في لجوئهم لتزوير الأوراق الرسمية والقتل، والاستعانة بالمشايخ لإقناع المرأة بالتنازل عن حقها في الميراث حفاظاً على تماسك الأسرة وصلة الأرحام.
أشكال التحايل على القانون والشرع الخاص بالميراث لا حصر لها، ومنها ما يقع في بعض مناطق الأرياف والمناطق النائية بالجزائر ما يعرف بعقد «الحبوس» الذي يمنح للذكور حق الانتفاع بالأرض ويحرم الإناث، حيث يحرر الأب هذا العقد في حياته ويوصي بما لديه من أراض لأبنائه الذكور في شكل «حبس» أي يحق له الانتفاع من خيرات هذه الأرض، ولا يبيعها، وبهذا تحافظ العائلة على أرضها والتي تبقى ملكاً للأبناء، ولا تذهب لغيرهم بحكم أنها لا تباع، ولا تذكر الإناث في عقد «الحبوس»، فهو موكول للأبناء الذكور دون البنات، وإذا انقرض نسلهم من الذكور تذهب الأرض لملكية الأوقاف.
والذكورية الغالبة التي يكرّسها بعض الآباء في صعيد مصر وغيرها من دولنا العربية قد يدفع ثمنها الأب نفسه غالياً ولا يعرف انه أضاع حقوق الله في عباده إلا بعد فوات الأوان وحيث لا يبقى إلا الندم.
في إحدى القصص المتكررة، ومنها ما وقع بإحدى قرى الصعيد حيث وهب أحد أعيان القرية ثروته لأبنائه الذكور وحرم بناته منها، ليتحوّل البيت إلى جحيم لا يُطاق بين أبنائه الذكور فترك الأب المنزل، وألحّت عليه بناته للإقامة معهنَّ، لكنه رفض بشدة لشعوره بالذنب والحرج بعد حرمانهنّ من الميراث، ليستقرّ به المقام في دار المسنين.
وأحياناً يقوم الأب والأبناء الذكور بترضية الإناث بجزء من الميراث مقابل مبالغ مالية في ما يسمى بـ «رضوة» حتى لا يكون لأزواج البنات مكان في أراضي وعقارات الأب. وقد يجبر الأب بناته على التنازل أو البيع لحقوقهنّ على الورق كشرط لتزويجهنّ بمن يرغبنَ، حتى يقبل زوجها من البداية بأنّ زوجته خالية من الميراث، وقد يبرّر الأب فعلته هذه بأنّ ذلك اختبار حقيقي لمن يرغب فى الزواج من بناته لذاتهنّ وليس طمعاً في ميراثهنّ.
أما الأخ الأكبر فقد يعتدي على «أنصبة» وحقوق أخواته البنات لجهله بالشرع ونتيجة الموروث الجاهلي وقولهم «إنَّ وجدنا آباءنا وأجدادنا لا يورثون النساء»، ولا شك انّ سلب حقوق الميراث وعدم توزيعها وفق «الأنصبة» الشرعية ينتج عنها تفتت المجتمع وقطع صلة الأرحام واشتعال الفتن بين الأسرة الواحدة التي قد تصل إلى القتل والثأر.
ومن يتوقع انّ بلداً حضارياً مثل لبنان لا يعاني من هذا الأمر فهو مخطئ فما عانت منه الجدات سابقاً يُعاد ويتكرر في الخلافات بين الورثة على توزيع «التركة» ليس فقط حرمان المرأة من حقوقها فقط بل وأخذها بالكلمة الحلوة والتخجيل كي تتنازل لإخوتها الذكور.
أما في العراق فيحدث هذا إضافة إلى تشابك الإرث بين الأولاد والأحفاد وأولاد الأحفاد المشتركين في إرث واحد لتبقى قيد المحاكم سنوات طويلة دون حلول، وذلك بسبب عدم اتفاق الأطراف كلها على التقسيم او البيع او كيفية التصرف بالأموال، ناهيك عن المهاجرين غير العابئين والذين بغيابهم لا يستطيع باقي الورثة التصرف بالتركة مثل البيع او استثمار الأموال بالعمل.
وفي الأردن عادة يتمّ إعطاء بيت الأهل للولد وفي حالة طلاق البنت المتزوّجة تواجه مشاكل في السكن خاصة إذا كان معها أطفالها وفي حالة عدم توفير الزوج سكن للأمّ الحاضنة فتضطر الأخت للعيش مع زوجة أخيها وتتلقى حظها اما ان تكون طيبة او شريرة،
والأجدر تأمين بيت او مصدر مال للبنت قبل الولد وذلك حفاظاً على كرامتها وصوناً لها من كل مكروه.
أما في سورية فيختلف الأمر بين المدينة والريف فالمرأة في المدينة غالباً ما تأخذ حقها، ولكن في الأرياف والأراضي الزراعية يدفعون النساء إلى التنازل عنها سواء ترغيباً او ترهيباً حيث أنهم يتشابهون مع باقي دول المنطقة العربية خاصة العراق ومصر بأنّ الأرض الزراعية يجب ان تمتدّ من جيلٍ إلى جيل بنفس العائلة ولا تخرج عنهم أبداً، ومن هنا ظهرت فكرت تزويج البنات من أولاد العمومة.
إنّ مشاكل الإرث ليست محصورة فقط في مشاكل إرث الإناث وإنما بمشاكل لا حصر لها بين الإخوة الذكور في ما بينهم بعيداً عن البنات، وكلّ هذا لأنه من البداية البيت لم يكن قائماً على الحب والتعاضد والتكافل بين الإخوة في البيت الواحد منذ الصغر ولم يتعلموا ان الإنسان قيمة لا تعوّض وانّ الدم أغلى من الذهب، وانّ الإنسان هو من يصنع المال ولو ذهب المال نستطيع تعويضه، انما الإخوة لا بديل لهم فالإنسان عندما يصرخ من الألم يقول آخ،
ولطالما كانت الأخت هي الأمّ الثانية لأخيها ولكن غابت المحبة والرحمة فغاب معها ميزان الأمور وأصبحت الناس توزن الأمور بقناطير الذهب و سبائك الفضة.
حتى هذا العالم الاستهلاكي المروّج للسلع طوال الوقت جعل الناس أكثر مادية حيث انتزعت العواطف من داخلهم رويداً رويداً في هذا العالم الرأسمالي الذي يقيِّم الأشخاص بأرصدتهم البنكية.
سوء التربية
المتهم الأول في هدم الأسرة وتحطيم روابطها وضياع حقوق الميراث هو سوء التربية والأخطاء التي يقع فيها الأباء في تربية أبنائهم، وأهمّها التفرقة بين الأبناء بتفضيل أحدهم على الآخر أو تمييز الولد على البنت، وهنا تتشكل بذرة الكره الأولى التي يبذرها الوالدان أو أحدهما في نفوس أبنائهما، وهو ما حذر النبي محمد من التفرقة في المعاملة بين الأبناء.
فبعض العوائل في بعض بلدان الخليج العربي على سبيل المثال وكما رصد خبراء ومستشارون تربويون واجتماعيون، انتشار تفضيل الولد عن البنت أو تفضيل الإبن البكر، حتى لو مات الوالدان حيث يصبح الإبن هو صاحب التصرف وصاحب السلطة، وهذه السلطة الموحشة للإبن البكر قد اكتسبها من تدليل الأبوين له منذ الصغر وعندما يكبر تعطى له الوكالة الشرعية عن الوالدين، وهو ما يساعده في التصرف بالميراث، ويعطيه الحق في حرمان إخوانه وأخواته من الحق الشرعي لهم، ولذلك تندلع الصراعات بين الإخوة التي تفضي بهم الى ساحات القضاء فور موت الوالدين بسبب الميراث.
لا شك انّ غياب تطبيق الشريعة الإسلامية في الميراث والقوانين الملزمة بتنفيذها عبر التحايل واطماع النفس البشرية والإحتكام إلى الموروثات الجاهلية المتعصبة للذكر دون حق الأنثى أو الضعفاء اليتامى، قد أضرّ كثيراً بصورة العدالة في الشريعة الإسلامية، وأضرّ كثيراً بالسلام الاجتماعي والتماسك الأسري.
العدالة
وبينما نحن نعيش في عصر السموات المفتوحة ووسائط الميديا المختلفة، فلا بدّ من استثمار هذه النوافذ ومنها مواقع التواصل الاجتماعي في تغذية الوازع الديني بالحقوق والواجبات وفي مقدمتها حقوق الميراث، ونشر الوعي داخل الأسرة بنظم التربية الصحيحة والصحية التي لا تفرّق بين الأنثى والذكر في الحقوق والواجبات، وتدريس مادة «المواريث» في المدارس والجامعات حتى يتشكل وعي الأجيال بعلم الشرع الإلهي في توزيع «المواريث»، وتنظيم حملات توعوية مكثفة بالمساجد لمنع الآباء من منح الإبن البكر «تركة» ابويه على حساب حقوق أخواته دون وجه حق، وشرح أهمية الإحتكام لشريعة الله وأحكامه في التوريث.
وتوظيف خطباء المساجد قدراتهم على الإقناع في توعية الأب والأمّ مهمّ في دعم الأخوات وترسيخ الحب والتسامح والتقريب بينهم وعدم التفرقة في المعاملة لخلق مناخ الود والإخاء بين الأشقاء، وبيان أثر التمييز بين الإخوة في المعاملة في خلق الكراهية والأنانية وحب الذات.