تحولات كبرى لن يوقفها وقف إطلاق النار
ناصر قنديل
– سواء تمّ التوصل الى اتفاق يلبي شروط المقاومة لإنجاز تهدئة طويلة، لأنه بات محسوماً أنّها لن تتم إلا إذا تمّت تلبية شروط المقاومة، رغم كل جهود الرئيس الأميركي وفريقه لتجنيب بنيامين نتنياهو هذه الكأس المرّة بالسعي الى استبدال النص على انتهاء الحرب ومتمماته بتعهدات رئاسية أميركية، او لم يتم التوصل إلى هذه التهدئة الطويلة، فإن ثمة تحولات كبرى جرت على جبهة الصراع بين قوى المقاومة وكيان الاحتلال لم يعد ممكناً وقف مسارات تأثيرها المتعدد الأبعاد.
– ثمّة طريق وحيدة لجعل التهدئة أطول من شهور، هي قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، تكون دولة كاملة المواصفات ولا سيادة، لا مستوطنات فيها وعاصمتها القدس الشرقية، وهذا لا يبدو وارداً إلا بعد جولات من القتال تضع مصير الكيان على شفا الانهيار، فيجري استنقاذه عبر مسعى دولي جامع، أميركي أوروبي روسي صيني لوضع سقف للحقوق الفلسطينية بقيام الدولة أملاً بالحفاظ على بقاء الكيان، لكن هذا أولاً دونه كاحتمال، قد يحصل وقد لا يحصل، مواجهات وجولات، وثانياً يحتاج الى توافق دولي لا يمكن تحقيقه دون تسويات كبرى حول الأزمات المفتوحة وكلها تتصل بهوية نظام عالمي جديد، ليست متوافرة الشروط بعد، وثالثاً هو خيار مشروط بأن تكون المواجهات الساخنة التي تنضج ظروفه مصحوبة بهدوء في الأراضي المحتلة عام 1948، وبغياب عمليات عبور بري لقوى المقاومة نحو هذه الأراضي مثل الطوفان أو مثلما يجري الحديث عن رعب الشمال والعبور الى الجليل، وكلها شروط دونها الكثير من التعقيدات كي تتحقق.
– في كل الأحوال نحن أمام جولات لاحقة إن تمّت التهدئة، أو أمام جولة ممتدّة إذا لم تتمّ. وهنا تأتي قيمة التحوّلات التي أنتجتها حرب الشهور الثمانية، وأهمها أولاً، أنه في غزة منذ نشوء الكيان لم تنخرط قوة تمثل كل جسم المقاومة المقاتل في حرب مباشرة وطويلة مع جيش الاحتلال، وبهذه الضراوة، رغم المواجهات التي سبقت انسحاب الاحتلال من غزة والتي تلتها، فقد كانت محدّدة بجزء من الكل، جغرافياً وزمنياً ونارياً وبشرياً، وفي ظلّ هذا الحجم الكليّ لهذه المواجهة جغرافياً وزمنياً وبشرياً ونارياً، ولد جيش تحرير وطني فلسطيني، قوامه آلاف المقاتلين، له قيادة عسكرية وسياسية، وقضية التحرير على جدول أعماله. وقد تسنى لضباط هذا الجيش وجنوده المعزّزين بروح عقائدية عالية، وروح قتالية بطولية، وخبرات ومهارات استثنائية أن يعاينوا عن كثب نقاط ضعف جيش الاحتلال، وهم يتفننون في أساليب الفتك به، وهم لن يحتاجوا وقتاً طويلاً حتى يمتلكوا الخطط المناسبة لإدارة حربهم من حيث انتهت هذه الجولة إذا تمّت التهدئة، ومن حيث ما حققت إذا استمر القتال ولم تتحقق التهدئة. والقضية سوف تكون في حال التهدئة هي الضفة الغربية وغلاف غزة مرة أخرى، وإذا لم تتم التهدئة سيبدأ العمل لتحرير غزة بالقوة وطرد الاحتلال منها قسراً تحت النار.
– على جبهة لبنان نشأ جيش تحرير ثانٍ، قوامه عشرات الآلاف من المقاتلين المدربين والمجهزين، والمزوّدين بترسانة حربية لا يعلم أحد أسرارها وما تختزن من مفاجآت، وهؤلاء ضباطاً وجنوداً باتوا يعرفون جغرافيا بعمق 50 كلم من فلسطين كما يعرفون كفّ يد الواحد منهم، يقرأون خارطتها ويعرفون أسماء البلدات فيها والمستوطنات، والفرق والألوية والكتائب وأسماء قادتها وأرقام هواتفهم وأسماء زوجاتهم وأبنائهم، وخطوط انتشارها ومهامها وطريقة قتالها وتسليحها ونقاط قوتها ونقاط ضعفها، ولم تعُد تصوراتهم عن كيفية خوض الحرب مبدئية ونظرية. وقد خاضوا لأول مرة منذ حرب الاستنزاف التي خاضها الجيش المصري قبل نصف قرن، كجيش عربي يخوض مواجهة نظامية مع جيش الاحتلال عبر خط الحدود، ويصنع حرباً حقيقية يمسك بزمام المبادرة، بحيث باتوا يملكون تصوراً واضحاً، لثلاثة مستويات تفصيلية في العمليات الحربية، الأول كيف يدفع جيش الاحتلال للقتال دون سماع ورؤية، مع تدمير كامل تجهيزاته الاستعلامية على خط الحدود وغرف عملياته الالكترونية في الخلف والعمق، والثاني كيف يستنزفون الفرق والألوية والكتائب ويدمرون القبب الحديدية ويستهدفون مرابض المدفعية، فيصنعون معادلات رمي صاروخية مدروسة ومحسوبة تصل إلى أهدافها بدقة، سواء كانت صواريخ موجهة مضادة للدروع، وصواريخ متطورة برؤوس ثقيلة للمدى القصير والمتوسط، والثالث البدء بالإخلال بمعادلة الهيمنة الجوية لجيش الاحتلال، سواء عبر نجاح سلاح الطائرات المسيرة بامتلاك خطط لبلوغ الأهداف، والنجاح بتطبيقها لفرض الهيمنة على أجواء شمال فلسطين، او عبر ما بدأ يظهره سلاح الدفاع الجوي من تعامل مع الطائرات المسيرة المتطورة لجيش الاحتلال، ولاحقاً ما قام به من ردع لسلاح الطيران الحربي. وما دام هذا الجيش الذي تمثله قوة حزب الله في المقاومة الاسلامية، واثقاً بتفوقه في حروب البر والعبور، وعدوه يصادق على هذا التفوق، فإن التتمة الطبيعية هي جغرافيا شمال فلسطين.
– ينعقد حول هذين الجيشين الوطنيين حلف عمقه الاستراتيجي في إيران، حيث انتقل الردع الاستراتيجي الإقليمي، منذ فجر 14 نيسان والرد الرادع، وهروب جيش الاحتلال من مجاراته المثل بقرار أميركي لتجنب حرب كبرى فوق طاقة الحليفين الأميركي والإسرائيلي. ولهذا الحلف قاعدة استراتيجية اسمها سورية لها أرض محتلة في الجولان، وفي ظل التحولات لن تكون بعيدة عن فتح الجبهة عندما لا تكون حرب استنزاف. وفي هذا الحلف مَن سوف يعاون سورية على توفير مستلزمات الجبهة. فالمقاومة العراقية التي تملك خزاناً بشرياً ضخماً وتملك مخزوناً من السلاح الاستراتيجي، تستعدّ لتكون عندما تقرر الدولة السورية وتحين لحظة قرار المحور بالانتقال إلى الهجوم، في الخطوط السورية الأماميّة. وفي جنوب المنطقة وعلى شواطئ البحر الأحمر اكتسب اليمن خبرة لا تضاهى في كيفية خوض غمار الحروب وتقديم الإسناد بأشكاله المتعددة.
– مقابل هذه التحولات، تحولات معاكسة في الكيان، جيش فاشل ومهترئ ومتهالك، قادر على القتل وليس على القتال، وتجمع بشريّ تنخره الانقسامات وبيئة سياسية متشظية، وعزلة دولية، وغضب شعبي عالمي، وربما يكون الرئيس الأميركي قد أطلق مشروعه لاستنقاذ الكيان بصفقة، لهذه الأسباب مجتمعة خشية منه على مستقبل الكيان، وربما يطوّر مشروعه لملاقاة المقاومة على شروطها كي لا تضيع الفرصة، وربما لهذا السبب يقول الأوروبيون بالحاجة للسير سريعاً بإقامة الدولة الفلسطينية، لكن في الكيان عقول عنصرية وغرور وعنجهية واستعلاء، تجعل تعنت الكيان أحد شروط إنضاج مشروع المقاومة نحو حرب التحرير، ودون المرور بالحرب الكبرى، أي حرب تدمير المدن والعواصم.