أولى

التداعيات الجيو سياسية والجيو اقتصادية لعملية «طوفان الأقصى»

‭}‬ زياد حافظ*‬

المؤتمر القومي العربي الذي عقد دورته الثالثة والثلاثين في بيروت بين 31 أيار/ مايو و2 حزيران/ يونيو 2024 ناقش عملية “طوفان الأقصى” وتداعياتها على الصعيد السياسي والمشروع النهضوي العربي ومستقبل النظام العربي. كما ناقش التداعيات الجيو سياسية والاقتصادية على الصعيد الإقليمي والدولي. وهذه التداعيات الجيوسياسية والاقتصادية لا تقلّ أهميتها في تأثيرها على مسار الصراع مع الكيان الصهيوني ولا في المعادلات الدولية والإقليمية فحسب، بل على تفعيل عدة جبهات في غرب آسيا سواء على المستوى العربي أو الإقليمي أو الدولي. ويمكن إبداء الملاحظات التالية:
أولاً- عملية “طوفان الأقصى” شكّلت ضربة قاسمة لمشاريع التطبيع مع الكيان الصهيوني والتي تدفع إليه الولايات المتحدة. ففي الأسبوع الذي سبق العملية كان جاك سوليفان رئيس المجلس الأمن القومي الأميركي قد صرّح على محطة “ان بي سي” الأميركية أن منطقة غرب آسية تنعم بهدوء وأن مسار التطبيع يتأكد. ثم قدمّ تلك الرؤية في مقال له في مجلة “فورين افيرز”. فوجئ سوليفان بعملية “طوفان الأقصى” فكانت هرولة الإدارة الأميركية لدعم الكيان مع زيارة وزير الخارجية وفي ما بعد الرئيس الأميركي. وهذه المفاجأة أكّدت الإخفاق الكبير في معرفة التطوّرات على الأرض وقصر نظر الإدارة في تقدير أهمية القضية الفلسطينية. كما أن العملية كشفت الإخفاق الاستخباري لكل من الكيان والولايات المتحدة. وهذا الإخفاق لم يخف عن تقدير المراجع السياسية في دول المنطقة ما جعل حكومات الدول العربية المتماهية تقليدياً مع سياسات الولايات المتحدة تتريّث في الاستجابة للرغبات الأميركية في محاولاتها لتطويق أبعاد “طوفان الأقصى” وإعادة الاعتبار لهيبة الكيان الصهيوني التي تحطّمت في 7 تشرين/ أكتوبر 2023.
لذلك فشلت الجولات الأميركية في المنطقة لحث الدول العربية على إدانة عملية المقاومة والمضي في مسار التطبيع. زيارة المسؤولين الأميركيين لبلاد الحرمين مُنيت بالفشل بعد إعلان سلسلة من مواقف من قبل حكومة الرياض أن مسار التطبيع مرتبط بحل عادل للقضية الفلسطينية. وذروة هذا الفشل تجسّد في رفض كل من الرئيس المصري والعاهل الأردني ورئيس السلطة الفلسطينية الاجتماع بالرئيس الأميركي خاصة بعد جريمة قصف مستشفى “الشفاء” في غزة. هذا الفشل الدبلوماسي الأميركي يؤكّد مدى تراجع نفوذ الولايات المتحدة رغم كثافة الوجود العسكري له في منطقة الجزيرة العربية وفي العراق وفي سورية.
ولا يمكن فصل الإخفاق في الدبلوماسية الأميركية عن التحوّلات التي سبقت “طوفان الأقصى” في مواقف بلاد الحرمين تجاه توثيق العلاقات مع كل من روسيا والصين، والمصالحة مع الجمهورية الإسلامية في إيران، وتسعير النفط باليووان الصيني في صفقات النفط مع الصين، والتمسّك بروسيا في أوبك + للتنسيق في سياسة إنتاج النفط وتسعيره، ودعم عودة سورية إلى الجامعة العربية، وكل ذلك تلازماً مع تجميد العمليات العسكرية ضد اليمن. وتجب الإضافة إلى كل ذلك دخول بلاد الحرمين ودولة الإمارات العربية ومصر إلى منظومة بريكس ما يشكّل صفعة كبيرة للجهود الأميركية لمواجهة الكتلة الأوراسية الصاعدة ومجموعة دول الجنوب الإجمالي. فكما خسرت الولايات المتحدة إيران سنة 1979 فهي على عتبة خسارة كل منطقة غرب آسيا برمّتها رغم المصالح العربية معها.
ثانياً- النتيجة الثانية لعملية “طوفان الأقصى” والمتلازمة مع إيقاف حركة التطبيع في الجزيرة العربية هو إسقاط مشروع بايدن للخط الذي يربط الهند بالجزيرة العربية بفلسطين المحتلة كبديل عن خط الحزام الواحد الذي يشكّل مرتكز التحرّك السياسي والاقتصادي للصين والذي كان قد أعلنه بايدن في أعقاب مؤتمر قمة العشرين في نيودلهي. إجهاض الخط البديل يعزّز مكانة المشروع الصيني كما يحفّز الصين على توثيق وتثبيت العلاقات الاستراتيجية مع دول غرب آسيا فكان الإعلان الصيني عن التعاون الاستراتيجي مع سورية. و”طوفان الأقصى” ساهم في تنامي الدور الصيني في غرب آسيا عبر استضافة فصائل المقاومة والعمل على الدفع لتوحيد الموقف الفلسطيني. فبينما تفقد الولايات المتحدة أوراقاً سياسية نرى الصين تحصد نتائج سوء التقدير الأميركي والغربي في المنطقة.
ثالثاً- تلازماً مع إجهاض المشروع الأميركي البديل لطريق الحزام الواحد الصيني كان العامل اليمني في البحر الأحمر والمحيط الهندي ليسقط بضربة قاضية الهيمنة الأميركية على الممرات البحرية عبر استهداف القوّات اليمنية البواخر المتجهة نحو مرافئ الكيان الصهيوني. فعجز الولايات المتحدة ومعها المملكة المتحدة وفرنسا على كبح اليمن كان تحوّلاً مفصلياً في البعد الجيوسياسي والاقتصادي لموازين القوّة في البحر الأحمر. فأحد مرتكزات الهيمنة الأميركية هو السيطرة على الممرات البحرية أسوة بسيطرتها على شرايين المال. فقيام اليمن بإسقاط الدور الأميركي عامل أساسي في قلب موازين القوّة. وإعلان اليمن أن تلك الإجراءات التي تمنع مرور السفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني مرتبطة بالعدوان الصهيوني على غزة. فإيقاف العدوان يعيد فتح الممرّ البحري. هذا تحوّل لم يكن بالحسبان عند المحور الغربي.
إضافة إلى ذلك الإخفاق الأميركي في عجز الولايات المتحدة تجنيد كل من مصر (المتضرّرة) من انخفاض عدد السفن التي تمر بقناة السويس في حلف لمواجهة اليمن. كذلك الأمر بالنسبة لبلاد الحرمين ودولة الإمارات المتمسكتين باستمرار الهدنة مع اليمن. وفي ما بعد انسحبت القطع الفرنسية من بحر الأحمر والمعلومات الأخيرة كانت حول استهداف حاملة الطائرات الأميركيّة في محيط البحر الأحمر. فرغم الغارات الأميركية والبريطانية المتكرّرة والمكثّفة على مواقع يمنية إلاّ أنها فشلت في ردع اليمن. فكيف يمكن للولايات المتحدة الإقدام على مواجهة عسكرية مع محور المقاومة أو مع روسيا في أوكرانيا أو مع الصين في شرق آسيا؟
فشل السيطرة على ممر باب المندب تلازم مع إجهاض الخط البديل عن خط الحزام الواحد ما يعني لأول مرة منذ عدة قرون سقوط قوامة القوى البحرية على السيطرة على العالم. هذا يعني انتصار “الجزيرة الآسيوية” على قوّات البحر وإعادة الاعتبار إلى القوّات البرّية. ففشل السيطرة في الجوّ وفي البحر لدى قوى الحلف الأطلسي والكيان الصهيوني ألغى عناصر الهيمنة الجيوسياسية في غرب آسيا. وبما أنّ غرب آسيا هي المنطقة الجغرافية الأهم في العالم لقربها من ثلاث قارات ووجود مصادر الطاقة فإن فقدان الهيمنة التاريخية الانجلوساكسونية على المنطقة ينذر بأفول الإمبراطورية الأميركية.
رابعاً – من تداعيات “طوفان الأقصى” ارتكاب الكيان الصهيوني حماقة استراتيجية إضافية عبر قصف القنصلية الإيرانية في دمشق. برز سوء التقدير الصهيوني ومعه سوء التقدير الأميركي لأن الولايات المتحدة ليست شريكة وداعمة للعدوان على غزة فحسب بل هي مَن تدير العدوان. وسوء التقدير عند الشريكين بالجريمة التي ترتكب يكمن في الاستخفاف من الردّ الإيراني وعدم إدراك تداعيات استهداف إيران بأنه استهداف لمنظومة البريكس ومؤسسة شنغهاي. فالجمهورية الإسلامية في إيران عضو في المنظومتين. فإما الكيان الصهيوني وشريكه ومسيّره غابت عن بالهما هذه الحقيقة ويمكن الشكّ بذلك وإما هو تعبير عن الاستخفاف بتلك المنظومتين وبقدرات إيران. والاحتمال الثاني هو الأرجح ويأتي في سياق تراكم الإخفاقات في التقدير في مختلف مسارح الصراع سواء في أوكرانيا أو في مختلف مسارح غرب آسيا وأيضاً في شرق آسيا في السعي العبثي لمحاصرة واحتواء الصين.
هذا يعني أن الدور الصيني والروسي سيكون أكثر حضوراً في غرب آسيا وذلك على حساب الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص. تحييد منظمة الأمم المتحدة والقانون الدولي من قبل الغرب من أي مضمون فعّال ألغى مصداقية النظام العالمي الذي تريد فرضه الولايات المتحدة والمسمّى بمنظومة القيم والأخلاق. بالمقابل تؤكّد كل من روسيا والصين على قوامة القانون الدولي في تأطير العلاقات بين الدول واحترام سيادة الدول. فالدور الأميركي في غرب آسيا أفقدها أي مصداقية وفعالية حتى عند الدول المتماهية معه. فإذا كان هدف الولايات المتحدة محاصرة الصين فإن أداءها في العدوان على غزّة عزّز حضور كل من الصين وروسيا وجنوب أفريقيا إلى غرب آسيا بقوّة. كما أن العدوان على الجمهورية الإسلامية في إيران وردّها عليه جعل من إيران قوّة إقليمية عظمى قد تسدّ الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة بخروجها من غرب آسيا.
خامساً – إن الإخفاق في إخضاع حماس يعني الفشل في إخضاع حزب الله وإيران واليمن. وهو عجز صهيونيّ وعجز أميركيّ وغربيّ في آن واحد. وهذا العجز يؤكّد أن مجمع دول الغرب والكيان الصهيوني غير قادر على التأثير على مسار الأمور، رغم ما يتمتّع هذا المحور الغربي من قدرات عسكرية واقتصادية تفوق ما في حوزة محور المقاومة. هذا يعني أن فائض القوّة المتوفّر لدى المحور الغربي لا يمكن ترجمته سياسياً بسبب فقدان المصداقية. وفقدان المصداقية يعود إلى كشف ازدواجية المعايير والعنصرية المتجذرة تجاه شعوب المنطقة. وفقدان المصداقية يترجم بفقدان القيمة المعنوية والأخلاقية التي كان يعتمدها الغرب لإخضاع الشعوب. بالمقابل، فإن فائض القيمة المضافة عند مكوّنات محور المقاومة يُترجم بفائض قوّة يردع التفوّق الناري لدى المحور الغربي.
سادساً – هذا فائض القيمة لدى محور المقاومة تبلور في “طوفان الأقصى” الذي أظهر في المشهد العسكري سلاحاً جديداً في الميدان كما أظهر أن الغرب والكيان الصهيوني يديران الحروب بعقلية القرن العشرين ولا يستطيعان حتى الآن التكيّف مع حروب القرن الحادي والعشرين. فالسلاح النوعي الجديد كالصواريخ المتعدّدة الأشكال بما فيها تلك الفارقة للصوت والمسيّرات هي أدوات حروب القرن الحادي والعشرين بينما الكثافة النارية للطائرات الحربية والدبّابات لدى العدو الصهيوني لا تستطيع مواجهة السلاح النوعي الجديد ولا حتى التكتيكات العسكرية التي تنفّذها المقاومة. وتنوّع السلاح لدى مكوّنات محور المقاومة تلازم مع تنوّع في خطط وأساليب القتال تتكيّف مع البيئة العسكرية ومع مواقع الضعف لدى العدو. فالضربات العسكرية لدى المقاومة في ساحة فلسطين وفي المنطقة العربية استهدفت مواقع استراتيجية تراكم فيها الإنجازات لصالحها وتراكم الإخفاقات عند العدو. وهذا يعني أن إطالة المواجهة العسكرية ليست في صالح العدو بل تستنزف قدراته دون أن يحقّق أي شيء سواء استهداف المدنيين. إلاّ ان ذلك الاستهداف ثمنه كبير على الصعيد الاستراتيجي حيث ضرب أحد مرتكزات الكيان وهو الدعم الخارجي. فصورة الكيان الحقيقية ظهرت للعالم ونسفت سرديات كان يُسوّقها على مدى ثمانية عقود دون أن تلاقي ردّاً أو نقضاً يُذكر.
سابعاً – أما على الصعيد الاقتصادي فإن “طوفان الأقصى” ساهم في دعوات الاحتجاج على المجازر الذي ترتكبها قوّات الاحتلال في غزّة وفي الضفة الغربية إلى مقاطعة اقتصادية للكيان الصهيوني. تكاملت هذه الدعوات مع جهود التنسيقيات العربية في مواجهة التطبيع ومقاطعة الشركات الغربية التي تتعامل مع الكيان. وبات واضحاً أن تلك الدعوات لقت صدى إيجابياً كبيراً في مقاطعة منتوجات شركات الوجبات السريعة كـ ماكدونالد وستاربكس على سبيل المثال. أما في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة فكانت وما زالت مطالب المتظاهرين من الطلاّب في الجامعات العريقة في إيقاف استثمارات الصناديق الجماعية في شركات التسليح الأميركية والشركات التي تتعامل مع الكيان.
ثامناً – إن إخفاق الولايات المتحدة وحلفائها في السيطرة على ممرّات البحر الأحمر والخليج والمحيط الهندي يكشف هشاشة الخطوط البحرية التي تزّود أوروبا بالسلع الآتية من آسيا. فسلسلة التوريد التي تمّ توطينها خارج المراكز الصناعية التقليدية في أوروبا والولايات المتحدة أصبحت مكشوفة تجاه الدول التي ترفض الهيمنة الغربية. هذا يعني أن “رفاهية” أوروبا الغربية والولايات المتحدة التي تعتمد على السلع من آسيا أصبحت خاضعة للقرارات والسياسات التي يمكن أن تنتهجها دولٌ كاليمن التي تسيطر على ممرّات حيوية. فالاقتصاد الغربي أصبح منكشفاً تجاه غرب آسيا في توريد السلع إضافة إلى حاجته في الطاقة الآتية من الخليج والجزيرة العربية. وممارسة اليمن بحق “النقض” البحري لا يقلّ أهمية عن حظر النفط كما حصل في 1973 والذي قد يعود إلى الواجهة بعد ما أقدم عليه اليمن. فهذه ورقة مستقبلية استراتيجية لردع المواقف العدوانية الغربية بشكل عام.

*باحث وكاتب اقتصاديّ سياسيّ والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى