المعركة على الضفة وليست على غزة
ناصر قنديل
– مع دخول الحرب على غزة شهرها التاسع لا يبدو أن في الجعبة الأميركية والاسرائيلية ما يتيح عكس الاتجاه الذي رسمته الشهور الثمانية الماضية، ذلك أن تعطيل المسار التفاوضي بتقديم مقترحات تتلاعب بصورة الجهة المسؤولة عن إفشال الحلول لا يغير من حقيقة أن لا بديل عسكريا لدى الاميركي والاسرائيلي ليستفيدا من تعطيل التفاوض، هذا عدا كون السعي لمحاصرة المقاومة سياسيا واعلاميا بصفتها من يعطل الحل لم ينجح لبلوغ أهدافه كما تقول الحملة الأميركية المكثفة المخططة منذ إطلاق مبادرة الرئيس الاميركي جو بايدن وتفخيخها بوصفها مقترحا اسرائيليا خطيا وضمانات اميركية شفهية، حيث اضطرت واشنطن الى تقديم نص مكتوب شامل يلبي ما تريده المقاومة في صيغة مشروع قرار معدل لمجلس الأمن كي تتفادى الفيتو فتمسكت المقاومة بقرار مجلس الأمن وتجاهلت مبادرة بايدن، طالما القرار مصمم لدعم المبادرة.
– الواضح أن ما يسمى باليوم التالي للحرب لم يعد سؤالا افتراضيا مطروحا على الكيان على خلفية الافتراض بأنه سوف يربح الحرب، فقد بات من المسلم به أن اليوم التالي للحرب على غزة هو عودة المقاومة للسيطرة العسكرية والأمنية على قطاع غزة وعودة مؤسسات حماس الحكومية إلى إدارة شؤونها المدنية. وبالرغم من حالة الإنكار التي تعيشها حكومة الكيان تجاه فشلها العسكري، فهي تعلم أن أمر غزة قد حسم، وأن سقف ما ترجوه واشنطن وتل أبيب هو وضع ضوابط تحيط بعودة حماس الى حكم غزة، من نوع الرهان على تأثير تمويل إعادة الإعمار في تمهيد الطريق لدور بعض الجماعات من وكلاء فلسطينيين لدول خليجية، أو الرهان على معادلة وحدة الضفة وغزة عبر تعويم السلطة الفلسطينية التي سوف تكون حماس من ضمن مكوناتها، لكنها ليست المكون الوحيد، أو الرهان على انه سوف يكون من الصعب على حماس إعادة بناء القوة التي احتاجتها لشن هجوم الطوفان، بعدما لحق بقوتها من أذى، وأنها سوف تحتاج الى سنوات لفعل ذلك.
– القضية هي في الضفة الغربية، بما لا يقبل الجدل، لأن الضفة الغربية هي ميدان الصراع على مستقبل الكيان ومستقبل فلسطين، ولذلك تعاقبت حكومات الكيان منذ 2005 وبقيت على سياسة الكيان التي تقوم على معادلة عزل غزة والرهان على تحييدها، وإغرائها بالتنعم بعائدات السلطة، وتوسيع الاستيطان والسيطرة على الضفة، أملا ببلوغ توازن ديمغرافي بين المستوطنين والسكان الأصليين، من جهة، والتمهيد لتهجير السكان الأصليين من جهة ثانية، وتعقيم الضفة من بذور المقاومة من جهة ثالثة.
– يخوض الكيان معركة الضفة التي تشكل أرض الميعاد في الرواية الصهيونية، والتي لا وجود لمشروع صهيوني بدونها، مثلها مثل القدس، وأمامه معادلة صعبة، عدم خسارة التوازن الديمغرافي في الأراضي المحتلة عام 1948 التي لا قيمة لها عقائديا، لكنها الملاذ المعترف به قانونيا ودبلوماسيا كجغرافيا مستقرة للكيان، وبالمقابل مواصلة تهويد القدس وما حولها، والسعي لتهجير السكان الأصليين من الشق الشرقي للقدس، ورفع وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية، وهو مهما حاول لن يتاح له توفير الموارد البشرية اللازمة لتحقيق هذه الأهداف معا.
– التهجير الذي فشل في غزة رغم الحجم المروع للمجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين، وتدمير ثلثي مساكن القطاع واغلب بنى الخدمات فيه، بات أكيدا أنه لن ينجح في القدس الشرقية والضفة الغربية، عدا عن أن مشروع تهجير غزة كما أثار مخاوف مصرية فقد فتح عيون الأردن على مخاطر مماثلة لتهجير أهل القدس والضفة نحو الضفة الشرقية ومشروع الوطن البديل، ما استدعى اهتماما أميركيا خاصا وتطمينات وبيانات ومواقف للتأكيد على رفض التغيير الجغرافي والديمغرافي لضمان بقاء الداء المصري والأردني تحت سقف لا يزعج العملية العسكرية لجيش الاحتلال، وضمان التعاون الذي قدمته دول عربية عديدة خلال التصدي للرد الإيراني الذي استهدف الكيان.
– في تقييم المشهد العسكري والأمني في الضفة الغربية، تقول الشهور التي مضت من حرب غزة، أنه رغم وحشية الاحتلال في الضفة وقتله لأكثر من خمسمئة شاب فلسطيني بين مقاوم وناشط و مدني واعتقال أكثر من ثمانية آلاف آخرين، فإن المقاومة مستمرة، والعمليات العسكرية لجيش الاحتلال لا تحقق تقدما نوعيا، خصوصا في معاقل المقاومة التي تتسع لتشمل بلدات ومخيمات جديدة، وبعدما كان مخيم جنين وحيدا، صارت مدينة جنين جزءا من المشهد المقاوم في الجغرافيا العسكرية، ثم انضمت نابلس البلدة القديمة والمخيمات المجاورة، واخيرا طولكرم وقلقيلية، وفي كل مرة يريد جيش الاحتلال أيا من هذه المعاقل عليه أن يعيد احتلاله من جديد، ثم الاضطرار للانسحاب، ليعود الوضع إلى ما كان عليه، وهذا ما يصفه الخبراء في الكيان بالوضع عشية الانسحاب من جنوب لبنان أو عشية الانسحاب من غزة.
– بالتوازي مع اشتعال الحالة المعنوية لسكان الضفة على خلفية ما تشهده غزة من توحش وإجرام، والروح القتالية التي يظهرها المقاومون في الضفة تحت شعار نصرة إخوانهم في غزة، تأتي وحدات جيش الاحتلال الى مهامها في الضفة وقد تم نقلها من غزة، وهي تعاني الكثير من أمراض حرب غزة، وأعراض ما بعد الحرب، من ضعف البنية وتراجع الروح القتالية، بينما يزداد المستوطنون تطرفا، وتقترب لحظة ينفجر فيها الوضع بين المستوطنات والبلدات الفلسطينية المجاورة، ووفق تقدير موقف الخبراء في الكيان، أن مثل هذا الانفجار قادم حكما بوجود أمثال ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وأنه عندما يحدث سوف يكون من الصعب الحفاظ على استقرار المستوطنات الصغيرة، ولن يكون سهلا النجاح بتفادي خسارة جزء كبير من جغرافيا الضفة لصالح مزيج من الجماعات الأهلية المسلحة للدفاع عن البلدات الفلسطينية ومجموعات المقاومة.
– الكيان يريد وهو يواجه مأزق الوجود المفتوح علنا منذ طوفان الأقصى بالسعي للربح بالضربة القاضية، بينما المقاومة التي حققت ضربتها القاضية في الطوفان تكتفي بقناعة بخوض حربها تحت شعار الربح بالنقاط، وها هي تربح بالنقاط والكيان يخسر الكثير من النقاط منذ ذلك اليوم الذي قال قادة الكيان إنه اعادهم الى حرب عام 1948.