دراسات

ورقة بحثيّة بعنوان: “قضية التنمية: مقاربة نقدية”

د. منير مهنا ود. زينب مروة

في عبارة بليغة الدلالة يقول المؤرخ شارل سينيوبو Charles Seingnobos : “عندما يتعلق الأمر بالعلوم الاجتماعية فنحن نتعامل في الواقع لا مع أشياء حقيقية، ولكن مع ما تمثّله هذه الأشياء في أذهاننا نحن”. وعليه تصبح أشكال المعرفة المختلفة بالواقع هي المحدد لماهيته، ويصبح الواقع بما “يُعرَّف” لا بما يكون عليه.
وفي هذا الإطار، فإن مسألة التعريف بالمفاهيم والمصطلحات تبدو في حدّ ذاتها – كمحاولة معرفية – عرضة للتغير وسيلحقها ما سيلحق المعرفة ذاتها من إخفاقات في القدرة على الإحاطة بما تسعى الى الإلمام به واقعاً، ولذلك ينبغي أن نتفهم “التعريف” وفق منظور جدليّ يتحرّك في واقع ديناميّ، حيث يتبادل المفهوم وتعريفه فيها الأسبقية والتأثير.
لذا نرى أن الأصل في تعريف المصطلحات ذات الصلة بقضية التنمية وأبعادها ومستوياتها يستوجب أن تُفهم التنمية في إطارها الإجتماعي – التاريخي وليس لذاتيّتها وآليات اشتغالها، وهذا ما يجعل من أشكال تموضعها الاجتماعي (كبنية ذهنية أصيلة) أكثر اتساقاً وتواصلاً مع نمط الوجود الذي يستخدمها كتصّور للفهم.
وبطبيعة الحال، فإن السؤال حول ماهية التنمية يبقى سؤالاً مشروعاً ومفتوحاً على أكثر من تصوّر وتعريف، ولا يفوتنا أن ننوّه في هذا السياق، بما قاله الدكتور سمير أيوب: “أما بالنسبة الى مفهوم التنمية، فلربما يكون الإجماع على ما ليس بالتنمية أسهل من الإجماع حول ماهية التنمية؛ فهو مفهوم نسبي معياري يتضمّن أحكاماً قيمية” .

أولاً: في محاولة الإحاطة بمصطلح التنمية
1- بناءً على التمييز الذي وضعه التوسير للتفريق بين مجال استخدامات كل من (المقولة، التصّور، المفهوم)، فإن مصطلح “التنمية” ينتمي إلى جملة المصطلحات التصوّرية اللامعيارية التي ينتجها التمثّل العقلي عن الواقع ومآلاته.
ولذا فهو مصطلح إيديولوجي بامتياز بدلالة تعدّد تعريفاته وتبدلاته وصفاته المتكاثرة، ويقع في المجال الإيديولوجي على الأغلب والأعّم أكثر مما هو مفهوم ينتمي الى المجال العلمي والمعرفة الوضعية.
2- إن مقاربة مصطلح التنمية كتصوّر معرفيّ يمكن أن يُقرأ على أوجه مُتعددة:
أ. ابستمولوجياً: تعدَد في النظريات.
ب. متودولجياً: تعدّد في الطرائق والأساليب.
ج. أمبريقياً: تعدّد في الممارسات والتجارب.
وكل قراءة على وجه من هذه الأوجه يُفضي إلى بناءات معرفية مختلفة، تشهد على ذلك التيارات الفكرية المتنوّعة والمتشاكلة التي تتضمّنها سرديات الخطاب التنمويّ عبر مختلف مراحل تطوّره التاريخي. فهو في المبتدأ والسيرورة تصوّر عبر – تاريخي وعبر – ثقافي جاء في سياق السطوة الاستعمارية الغربية وفي ظل ظروف دولية غير متكافئة ولم يكن نتيجة وعي ذاتيّ أنتجته الشعوب عن نفسها وليس وليد رؤيتها المستقبليّة حول هوية المجتمع الذي تريده في كافة أبعاده.
لذا نجد أن الإجابة عن سؤال: ما التنمية؟ ما زال موضع جدال لم يُحسَم بعد. فهل التنمية هي جملة المشاريع والبرامج والتدخلات التي تسعى إلى تحقيق نتائج قابلة للقياس وفقاً لمؤشرات وأرقام ومقارنات؟
أم أن التنمية هي تلك الفاعلية التي يظهرها الواقع الاجتماعي في قدرته على الإنتاج والتخطيط والتطوير كنتيجة لما تختزنه البنية الاجتماعية بكافة أشكالها من طاقات حيّة؟
ولكي لا تبقى الأسئلة أعلاه بلا إجابات، فإننا سنحاول تقديم مقترح إجابة عن السؤالين. فالتنمية، كما نتصوّرها، هي الفاعلية الناتجة عن العمل بإرادة واعية وقادرة على استثمار المقدرات والإمكانيات والموارد القائمة في الواقع الاجتماعي، لما فيه مصلحة الإنسان، كلّ إنسان.
أمّا القول بأن التنمية هي المشاريع والبرامج التنمويّة فهي وبالقياس على مقولة هيدغر التي تقول “العقل فكرة عن العمل فحسب”، فإن تلك المشاريع هي فكرة عن العمل التنموي وليست هي العمل التنموي.
أمّا بالنسبة للطرائق والممارسات التي يمكن اعتمادها لتحقيق التنمية: كيف نحقق التنمية؟ فإن الإجابات ما تزال رهن التجارب ومفتوحة على خيارات متعددة ولم يثبت أن تقليد واستنساخ تجربة معينة ونقلها يمكن أن يجعلها ناجحة لمجرد نقلها فقط (مثلاً: الطرائق التي تتبعها دول الشمال لا يمكن تكرارها في دول الجنوب).
3- إن الحقل المعرفي للتنمية ليس حقلاً عمودياً قائماً بذاته كاختصاص معرفي متقوقع على ذاته، بل هو حقل معرفي أفقي يتقاطع ويحتاج الى الحقول المعرفية الأخرى. وبمعنى آخر، فإن التخصصيّة التي ترصد الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي بمؤشرات محدّدة خاصة بكل من المعطيات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية، ليست لها دلالة كافية بحد ذاتها إذا لم ترتبط تلك المؤشرات في منظومة معرفية جامعة تعي أبعاد الظاهرة، ومدى تفاعلها في الإطار المجتمعي ضمن حدود الزمان والمكان، لكي يتمّ فهمها وتفسيرها انطلاقاً من ماضيها وعلى ضوء حاضرها لتتمكن من استشراف مآلاتها ومخرجاتها وتداعياتها في المستقبل. وإن مصطلح التنمية لكي يتميز عليه أن يكون حاملاً لملامح رؤية مستقبلية للتغير الاجتماعي.
وهذا ما يقودنا إلى القول: إن التنمية في مستوى الوعي التأويلي هي علم للمستقبل (طريقة في التفكير) ومنهج لاستشراف التحولات المأمولة في العلاقات الاجتماعية وما يرتبط بها من ظواهر في آماد زمنية محددة.
4- إن العمليات الإجرائية للتنمية غالباً ما تعاني حالة من اللاتوازن في أهمية الأولويات التي تُعطى للجوانب الكمية على حساب الجوانب النوعية للواقع الاجتماعي، وأبرزها في الجانب النوعي: مبدأ مشاركة السكان، مراعاة نظام القيم السائد، وتفهّم البنيات الذهنية للجماعات، والسماح بمساحات أوسع لحرية إبداء الرأي، وتبني معايير تقويمية تعتمد على أسس وآليات تؤدي إلى مزيد من الفهم للمنجزات وتوجيهها وتصحيحها.
5- إن إعطاء الأسبقية لاختيارات السكان في ما يتعلق بالنموذج الحياتي الذي يرغبون بإنجازه في واقعهم يفسح المجال لقيام ممارسات ديمقراطية، أي منطلق التكوين على المواطنة؛ وهو المنهج الذي يؤمّن الانطلاق الحقيقي نحو النماء الإنساني بالمشاركة في التخطيط وصياغة الرؤية من جهة، ومن ثم يترك الحرية للناس في اختيار الطريق وابتكار الحلول من داخل النسق الاجتماعي الذي يحيون فيه.
6- إن مسألة التنمية لا تكمن في زيادة الإنفاق على مشاريع وسلع خدمية معينة، تختارها الإدارة وتعتبرها أهدافاً ينبغي بلوغها وإنجاحها لتتحقق بذلك التنمية من تلقائها بل إن البرامج والخدمات هي مجرد أدوات عمل ومداخل تلجأ إليها الإدارة لتحسّن شروط إدماج الأفراد والجماعات ضمن جدلية المجتمع، وتتأمن من خلالها مشاركتهم في مساراته المتنوعة.
إن ما نتبناه من تصّور حول قضية التنمية يؤكد على ضرورة التحول من إعداد برامج جاهزة لتقديم الخدمات الاجتماعية، الى تمكين الناس من بناء الصلات التي تربط بينهم، ليحددوا معاً قضاياهم المشتركة والصيغ المتفق عليها لمعالجتها، ولتكوين مواقف مشتركة منها تساعد على التخطيط لمشاريع عامة وعلى المشاركه بتنفيذها مما يؤدي الى تغيير في الأوضاع المحيطة بالفرد والجماعة وتحسين في الشروط العامة للحياة المجتمعية، وهذا ما يشكّل مضمون التنمية بأبعادها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

ثانياً: مسار ومآل التنمية في لبنان
إن الاختلالات في بنية النظام اللبناني تعيق مسرى العمل التنموي في مختلف مستوياته، فالنظام اللبناني بات عاجزاً عن الإستمرار بفعل الإخفاقات المتكررة في تطبيق سياسات إنمائية متوازنة وذات جدوى، والشلل الذي يعيشه هذا النظام راهناً مردُّه الى أسس منظومته البنيوية التي يعمل عليها ومنها:
أ . إنّه نظام يعمل بمنطق “الجماعات التحاصصية” أي أنه يتخذ من التوزيع اللامتكافئ بين اللبنانيين نظاماً للإدارة والحكم، وهو ما يفسّر غياب العدالة والإنصاف بين الفئات الاجتماعية وغياب الشفافية والحكامة واستشراء اقتصاد الريع والتهرّب الضرائبي على سبيل المثال لا الحصر.
ب . وهو أيضاً نظام إقصائيّ / احتكاريّ / كومبرادوريّ، لا يسمح بالمشاركة الشعبيّة إلاّ من خلال قنوات تعيد إنتاج المنظومة السياسية نفسها واتباعها في كافة المجالات، حيث منطق المنافع الخاصة يطغى على المصلحة العامة في
كل شأن وطني.
ج . وهو نظام طارد للكفاءات والإمكانيات من خارج منطق الاستتباع والعصبيات المذهبية والحزبيات الدينية. وتكفي الإشارة الى نسبة هجرة الشباب والسياسات الغائبة لدى المنظومة الحاكمة عن الاهتمام بإدماج الشباب في دوائر اتخاد القرار وعدم الرغبة في تمكينهم من الثبات في وطنهم ودفعهم الى الهجرة.
د. وهو كذلك نظام مدمن على المراوغة والخداع والنفاق كأداة للتسويات البينية بين أطرافه حين تتفق مصالحهم واختراع أسباب الشقاق بين اللبنانيين حين يختلفون. وبالتالي فهو نظام فاقد للمصداقية لدى الأغلبية الصامتة من الناس الذي يجدون أنفسهم عاجزين عن التغيير في ظل سيطرة عصبية حزبية يدّعي فيها كل” زعيم” منهم العصمة عن الخطأ ولا يحاسَبون.

هذه المرتكزات البنيوية للنظام اللبناني هي التي تهتز الآن بفعل استمرارية اشتغالها على إنتاج الأزمات ومنع مسالك التغيير من التعبير عن نفسها عبر خطاب جديد لا تتيحه وسائل الإعلام العمومية، لا لشيء بل لأنها غير قادرة على مواجهة أساليب البروبغندا التي تعمل عليها وسائط الإعلام الخاصة والتابعة لكل جهة أو فريق سياسي، ويبدو الأمل في التحولات التي أحدثتها وسائط التواصل الاجتماعي والقدرة على استخدامها لدى الفاعلين الاجتماعيين في إنتاج خطاب مؤثّر في عملية التغير الاجتماعي نحو بناء نظام جديد.
وفي الخلاصة التي نصل إليها، إن التنمية في مجتمعنا ما زالت في مرتبة المنفعة ولم تتحوّل الى مرتبة القيمة، لذا فهي لم تتأصل في وعي اللبنانيين وسلوكهم.
والسبب الذي نراه عائقاً أمام هذا التأصيل هو ارتباطه ببنية النسق العام للنظام اللبناني الذي ما زال ينتج تصوراته عن ثقافة العمل بأنها تكمن في المنفعة منه لا في القيمة التي يكون عليها العمل بحد ذاته.

ثالثاً: المقاربة التّشاركيّة كمدخل للعمل التنموي
إن الإشكال الأساسي في مصطلح التنمية أنه يستبطن أطواراً متفاوتة ومتعددة بحسب سياق تحققه الاجتماعي.
ولمّا كانت التّنمية لا تحصل في فراغ، بل في محيطٍ متكاملٍ ومتفاعلٍ، مكوَّنٍ من نظمٍ اقتصاديّة، اجتماعيّة وثقافيّةٍ، وفي إطار مجتمعٍ مُحدّدٍ، فلا بد أن تمارس النّظم السّائدة والأنماط الثّقافيّة والتّفاعلات بينهما تأثيرًا مباشرًا وغير مباشر على مسيرة التّنمية، بل على النّظم كافةً في هذا المجتمع. وهذا إنّما يشير إلى أن أي استراتيجية للتّنمية، ليست وصفةً جاهزةً أو استراتيجيةً عامةً أو نموذجًا مُحددًا، تطبّق في المجتمعات كافة – وفي فتراتٍ زمنيةٍ مختلفةٍ*- فتحصل على النّتائج المستهدفة.
بادئ ذي بدء، لا بدّ من الإشارة إلى أن استثارة جهود أفراد المجتمع المحلي، واستمزاج آرائهم، وإشراكهم في النّقاش لتصوّراتهم واحتياجاتهم، والأخذ بمقترحاتهم الإيجابيّة هي من الأمور الضّرورية قبل البدء في مرحلة التّنفيذ لأي أعمال تنموية، وهذا ما لا يحصل عادةً، حيث تبقى مسألة المعرفة بالمشاريع التنموية ضمن الدّائرة الضّيقة من البيروقراطيين والوجهاء المحليين المهتمين بمثل هذه المشاريع.
وتأسيساً على ما سبق، وبالعودة إلى خلاصات بحثية ذات صلة بدراسة المقاربة التشاركيّة في الواقع اللبناني، نجد ان ديناميّة التمايز في فهم المقاربة التّشاركيّة واعتمادها على مستوى آراء القيّمين والفعاليات المحليّة تبرز ضمن ثلاثة اتجاهات:
• الاتجاه الأول: يرى بضرورة اعتماد هذه المقاربة على مستوى المجتمَعات المحليّة بعناصرها وفعالياتها كافةً، لكونها تتأثّر بأي مشروع تنمويّ مباشرة، وهي المعنية مباشرة بهذه المشاريع.
• الاتجاه الثاني: يعبّر عن فهمٍ قاصرٍ لموضوع المقاربة التّشاركية، من خلال ضرورة اختزال هذه المقاربة في بعض الوجهاء والقيّمين في المجتمع المحلي.
• الاتجاه الثالث: يرى أن المجتَمعات المحليّة لا تمتلك الخلفية الثّقافية والوعي الكافي، لكي يتمَّ إشراكها في التفاصيل، وبالتّالي تقتصر هذه المقاربة على إعطاء العلم بالمشروع.
وهذا إن دلّ على شيء إنما يدلّ على أنه مهما اختلفت تجارب التنمية من بلد الى آخر، ومن حالة الى أخرى في البلد نفسه، إلّا أنها في وجودها ليست سوى “صناعة محليّة” في المبتدأ والسيرورة والمآل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى