أولى

البرلمان الأوروبي

– يكفي ما أثارته الانتخابات التي شهدتها الدول الأوروبية لاختيار ممثليها في البرلمان الأوروبي من أزمة فرنسية، ترجمتها دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون لانتخابات مبكرة نهاية الشهر الحالي، في موقف غاضب من النتائج التي منحت اليمين المتطرف من مكانة متقدمة على الحزب الحاكم، للتوقف أمامها كتعبير عن تحول في اتجاهات الرأي العام الأوروبي، الذي منح التحالف اليميني الكتلة الأكبر في البرلمان الأوروبي 181 مقعداً من 720، من دون أن يتمكن من تشكيل أغلبية لا تزال بيد أحزاب الوسط وتحالفاته.
– هذا التحول نحو اليمين، هو عملياً انكفاء نحو الوطنية الضيقة والعنصرية أحياناً والمتطرفة أحياناً أخرى، على حساب وسطية مفهوم الاتحاد في قالب أوروبي، وفي مواجهة نموذج العولمة الذي تمثله الليبرالية الأميركية التي لا تعترف بهويات وحدود وأوطان وقضايا وقيم، وقد تحوّل الاتحاد وتحوّلت الواجهات الحاكمة في الدول الأوروبية إلى مجرد أقنعة يختفي وراء نظام سيطرة أميركي.
– يحدث هذا التحوّل وقد خسرت أوروبا موقعها في آخر المستعمرات الأفريقية التي كانت توفر لها المواد الخام الرخيصة، وحيث مثل النهب الاستعماري على مدى قرون سبباً لوفرة ورفاه شكلا أساس استقرار أحزاب الوسط، وصعود تيار العولمة والليبرالية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد حمل تيار العولمة تراجعاً في الإنتاج لصالح اقتصاد افتراضي للأسهم والبورصات والمضاربة، وتسبب بارتفاع نسب البطالة، فزاد الاستقطاب ضد المهاجرين، وجاءت الحرب الأوكرانية تهدد موارد الطاقة الرخيصة والسلسة التي تؤمنها روسيا بسبب رعونة التعامل الأوروبي مع روسيا ترجمة لطلبات أميركية. وها هي تكرر الموقف من حرب غزة بالسير وراء الموقف الأميركي، فيصبح مصير الطاقة الآتية من الخليج عبر البحر الأحمر أو البحر المتوسط مهدّدة هي الأخرى، ولا يبقى أمام الشركات الصناعية سوى الرحيل إلى أميركا بحثاً عن موارد طاقة رخيصة.
– بالتوازي مع التراجع الاقتصادي بفعل التبعية العمياء للسياسات الأميركية وتراجع مفهوم السياسة الوطنية، تراجع نظام القيم الثقافية والاجتماعية، وتراجعت الفلسفة وتراجع الأدب وتراجعت الفنون، وفقدت أوروبا مكانتها كمنتج ثقافي عالمي أول وتحوّلت الى مجرد مستهلك للتفاهة الأميركية، ومجرد منصة للترويج لقيم الإباحية والشذوذ، على حساب القيم العائلية التقليدية للأوروبيين.
– الاتجاه نحو اليمين تحت شعار فرنسا للفرنسيين مثلا بوجه المهاجرين وأغلبهم من المسلمين، لا يخفي وجهة اليمين نحو إحياء مفهوم الدولة الوطنية وتخفيف حجم الاندماج في قلب الاتحاد الأوروبي، والتحرر من التبعية العمياء للسياسات الأميركية لصالح نظام المصلحة، فلا مانع من مصالحة روسيا والحصول على النفط والغاز منها، حتى لو استمرت الحرب في أوكرانيا، ولا مبرّر للاصطفاف وراء نظام تشجيع الجريمة بحق الفلسطينيين، وإطلاق مبادرات تتيح تحقيق استقرار حوض المتوسط بعقلية متوسطية لا أطلسية، وصولاً للمطالبة بالانسحاب من حلف الناتو.
– تدخل أوروبا مخاضاً يصعب أن تخرج منه قريباً، ويصعب أن تخرج منه نحو الاستقرار سريعاً، ويصعب أن تمتلك خريطة طريق واضحة لرسم مستقبلها عبره، لأن ثمة مشاريع فك وتركيب سياسيّة وثقافيّة كبيرة سوف تعرفها أوروبا، وهي تطوي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد سدّدت ديون خطة مارشال الأميركية التي أعادت إعمار أوروبا مع فوائد الدين وأكثر، وعادت تبحث عن ذاتها ومكانتها في العالم.

التعليق السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى