هل أخطأت حكومة ميقاتي برجوعها عن قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية؟
} المحامي د. إبراهيم العرب
يعتبر البعض أنّ تراجع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أواخر الشهر الفائت عن قرارها بقبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الدائمة بالخطوة الصادمة، والتي تثير الهواجس والاعتبارات السياسية المحلية والخارجية.
ولكن ما لا يدركه البعض أنّ هذه المحكمة التي ساوت بين الضحية والجلاد وأصدرت مذكرات توقيف بحق الرئيس فلاديمير بوتين وطالبت بإصدار مذكرات توقيف بحق اسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف، عندما رغب مدّعي عام المحكمة إصدار مذكرات توقيف حصراً بحق بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت؛ تُمارس ضغوط دولية عليها أشبه بالوصاية الخارجية، لا سيما في ظلّ إعداد الكونغرس الأميركي مشروع قانون يستهدف قضاتها في حال لم يسيروا في الطريق المرسوم لهم من قبل القوى العظمى التي تحكم العالم.
ومن الناحية القانونية البحتة، كان أمام لبنان ثلاثة خيارات للانضمام للمحكمة الجنائية الدولية وهي التالية:
1 ـ المصادقة عبر البرلمان على النظام والانضمام إليها بأثر مباشر، من دون إيداع إعلان لدى مسجل المحكمة بأثر رجعي لاختصاصها، إذ إنّ المحكمة بموجب الفقرة 2 من المادة 11 من نظامها الأساسي، لا يجوز لها أن تمارس اختصاصها إلا في ما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة إلى تلك الدولة، وبذلك يبدأ نفاذ النظام الأساسي على دولة لبنان في اليوم الأول من الشهر الذي يعقب اليوم الستين من تاريخ هذا الإيداع، بمعنى أنه لو أودع طلب الانضمام في 20 حزيران 2024 مثلاً، فإنّ نظام المحكمة يصبح نافذاً اعتباراً من الأول من أيلول 2024.
2 ـ المصادقة عبر البرلمان على النظام والانضمام إلى المحكمة بأثر رجعي بمدى زمني أقصاه يرجع إلى تاريخ نفاذ النظام الأساسي منذ 1 تموز 2002.
3 ـ عدم المصادقة والانضمام واستبدال ذلك بإيداع إعلان لدى مسجل المحكمة لممارسة اختصاصها في ما يتعلق بجريمة قيد البحث بموجب الفقرة 3 من المادة 12 من نظام روما، وتحديده زمنياً بتاريخ أقصاه 1 تموز 2002، حيث تنص تلك الفقرة على ما يلي: «إذا كان قبول دولة غير طرف في النظام الأساسي لازماً بموجب الفقرة 2، جاز لتلك الدولة، بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة، أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث».
وبناءً على ذلك، في حال أصبح لبنان طرفاً في نظام المحكمة أو أودعت حكومته إعلاناً مسجلاً لدى المحكمة قبلت فيه باختصاص الأخيرة لمحاكمة «إسرائيل» عن الجرائم التي ارتكبتها على الأراضي اللبنانية منذ السابع من أكتوبر الفائت أو حتى منذ تاريخ نفاذ النظام الأساسي للمحكمة الجنائية في 1 تموز 2002، يُخشى أن تساوي تلك المحكمة الدولية نتيجة الضغوط الأميركية عليها، بين الجلاد والضحية مرّة أخرى، فتصدر مذكرات توقيف بحق قادة المقاومة اللبنانية، لا سيما أنه يُستفاد من الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 12 من نظام روما أنّ دولتنا تُطلق يد المحكمة الجنائية للتحقيق والمحاكمة عندما تنضمّ إلى نظام روما أو تقبل باختصاص المحكمة بخصوص جريمة ما، بحيث تتمكّن المحكمة الجنائية في هذه الحالة من التحقيق بالجرائم الواقعة في إقليم لبنان أو بالجرائم التي يرتكبها أحد رعايانا.
وهنا باعتقادي في ظلّ الهيمنة الأميركية على أكثرية الدول في العالم، فإن المادة 36 من نظام روما التي تجعل قضاة المحكمة ينتخبون من قبل جمعية الدول الأطراف في النظام لا تشجع على اختيار عدد كبير من القضاة الغير متعاطفين مع الصهيونية العالمية، لا سيما أنّ نظام روما يفرض أن تكون الترشيحات مصحوبة ببيان مفصّل عن المعلومات المتوفرة في كلّ مرشح، واشتراط حصول كلّ قاضٍ على أغلبية ثلثي الدول الأطراف الحاضرة التي صوّتت، ووجوب مراعاتهم النظم الرئيسية في العالم والتوزيع الجغرافي. كما أنّ ما يؤكد ذلك قدوم المرشحة الرئاسية الأميركية السابقة نيكي هايلي إلى الكيان الغاصب المحتلّ، وتوقيعها على الصواريخ الموجهة على مدننا وقرانا الجنوبية والبقاعية، بعد إضافتها لعبارة اقتلوهم جميعاً، وبالطبع يعني ذلك كلّ الأطفال والنساء والشيوخ اللبنانيين.
كذلك، فإنّ المحكمة الجنائية الدولية لا تتمتع بسلطات تنفيذية ولا توجد لديها شرطة لتنفيذ أوامر اعتقال، وبالتالي لن يثمر إدخال لبنان في المحكمة إلا بإصدار عقوبات دولية من مجلس الأمن على مقاومي لبنان حصراً، ومحاولة اعتقالهم حال سفرهم إلى الـ 124 دولة الأعضاء في نظام المحكمة. ولهذا، لا يُعتبر من قبيل التخلف ألا ينضمّ لبنان للمحكمة، في ظل عدم انضمام الولايات المتحدة الأميركية ولا «إسرائيل» ولا الصين ولا الهند وغيرهم. فقد بقيت الولايات المتحدة الأميركية خارج نظام المحكمة رغم الانضمام الخجول الذي حدث في عهد كلينتون حيث وقعت أميركا النظام الأساسي في 31 كانون الأول 2000 ولكنه لم يمرّر إلى مجلس الشيوخ والنواب للمصادقة عليه، وتخلص منه جورج بوش الابن في 6 أيار 2002، ومن ثم واصلت الولايات المتحدة الأميركية حربها ضدّ المحكمة فأصدرت قراراً في 2 آب 2002 يقضي بمنع المحاكم الأميركية والحكومات المحلية الفيدرالية من إجراء أيّ تعاون مع المحكمة وقامت بالتضييق عليها ومنع تسليم أيّ متهم أميركي أو أجنبي مقيم على أراضيها إليها، أو إجراء أيّ تحقيق معه لمصلحتها.
وختاماً، ما فائدة الدولة اللبنانية وحكومتها بتعريض كل من يقاتل «إسرائيل» دفاعاً عن وطنه ومؤازرة غزة إلى كلّ هذه الأخطار الجسيمة، بالوقت الذي لن تسلّم فيه لا أميركا ولا أيّ دولة أوروبية أي مسؤول إسرائيلي إلى المحكمة الجنائية، وألم يكتشف بعد أنصار حياد لبنان عن القضية المركزية الإنسانية فلسطين، ماهية الوجه الإسرائيلي القبيح الذي لا يعرف سوى ثقافة المحارق والمجازر بحق المسلمين والعرب، الذين لا يتوانى العدو عن وصفهم بالحيوانات البشرية؟ وكيف يحيّد امرؤ نفسه عن قضية قتل وتشريد وتعذيب جار له، محتلّ ومستضعف ولا حول له ولا قوّة، أو عن قضية تحرير مقدسات إسلامية ومسيحية يتمّ تدنيسها بشكل دوري لا لشيء إلا لإهانة كرامات أصحابها؟ سؤال برسم المنتقدين لقرار حكومة تصريف الأعمال اللبنانية.