مقالات وآراء

ازدواجية المعايير الأميركية وفق المنظور الروسي

د. حسن مرهج*

لا يمكن النظر إلى جملة التطورات الإقليمية والدولية بمعزل عن السياسات الأميركية التي تعمل على الدوام في سياق اختلاق الأزمات وتعزيزها، وينسحب على ذلك أنّ الولايات المتحدة دائماً ما تعتمد مبدأ ازدواجية المعايير، في التعاطي مع القضايا الشرق أوسطية، ودائماً ما تعمل على تعميق الأزمات في المنطقة، وهذا الأمر يتعلق أيضاً في طريقة تعاطيها مع القضايا الشرق أوسطية المستجدة، وعند اعتماد مبدأ ازدواجية المعايير، فإننا نتحدث هنا عن مستوى الانحطاط الأميركي والهمجية السياسية في التعاطي مع القضايا التي يمكن أن تمسّ نفوذها في العالم.
في وقت سابق، فإنّ الولايات المتحدة ذاتها كانت قد أيدت ودعمت قرار المحكمة الجنائية الدولية، عندما أصدرت أوامرها بشأن اعتقال الرئيس فلاديمير بوتين على خلفية الحرب في أوكرانيا، على الرغم من أنّ بوتين وبشهادة الساسة الاوربيين، أنه لم يرتكب جرائم حرب، فضلاً عن ذلك فإن واشنطن وبذات الإطار طالبت دول العالم بتنفيذ مذكرة الاعتقال بحق بوتين، بينما نظرت الولايات المتحدة لقرار المحكمة الجنائية الدولية المتعلق بملاحقة بنيامين نتنياهو، بعين الغضب، لكن السؤال المطروح هنا كيف سيكون ردّ نتنياهو على ازدواجية المعايير التي تتبعها الإدارة الأميركية تجاه روسيا والعالم؟
الولايات المتحدة ووفق منظورها، فإنّ لجنة القواعد في الكونغرس الأميركي وافقت على مشروع قانون ينص على فرض واشنطن عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لاتخاذها إجراءات ضدّ الولايات المتحدة وحلفائها، وتمّ دعم الوثيقة من قبل تسعة مشرعين، ويؤكد نص مشروع القانون المقدم بمبادرة من الجمهوريين على أنّ إدارة واشنطن يجب أن تفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية إذا حاولت هذه الهيئة التحقيق أو احتجاز أو اعتقال أو استدعاء أي شخص تحت حمايتها إلى العدالة، وتشمل هذه الفئة الأميركيين، ويتضمّن ذلك العسكريين، وكلّ من يعمل لحساب الحكومة الأميركية، ومواطني الدول المتحالفة مع واشنطن.
الولايات المتحدة أيضاً طالبت بـ إدانة المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، بعد إصدار مذكرة توقيف لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، وكان المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، قد أعلن أنه قرر توجيه الطلب بإصدار مذكرات اعتقال بحق كلّ من رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيليين، بنيامين نتنياهو ويواف غالانت.
الردّ الروسي جاء عبر المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، والتي أكدت أن إقرار مجلس النواب الأميركي قانون العقوبات ضد المحكمة الجنائية الدولية، بسبب «إسرائيل» هو تجسيد حي لـ «القانون الأميركي»، وقالت زاخاروفا مستهزئة «يوجد قانون روماني، وقانون عام، ويوجد قانون على الطريقة الأميركية». تعقيباً على ذلك، فإن الرد الروسي دائماً ما يكون متناسق مع حجم أيّ ملف، فهل يذكر أحد أن قامت روسيا يوماً بتهديد دولة ما أو حتى استخدام العقوبات أو الحصار ضدّ دولة ما؟
روسيا غالباً ما تتخذ خطوات كهذه رداً على خطوات مماثلة من الدول الغربية، وفي كثير من الحالات تفعل ذلك أملاً في إعطاء المجال للطرف الآخر إعادة النظر في الإجراءات التي اتخذتها تلك الدول ضد روسيا، لهذا فإنّ الرئيس بوتين، وبعد أن تمّت محاصرة روسيا وفرض عقوبات غير مسبوقة، لم يهدّد، وإنما حذر ونبّه إلى ما تنزلق إليه الأمور، حتى يعيد بعض قادة الدول الغربية النظر في سعيهم إلى هزيمة روسيا استراتيجياً، ومحاولة السيطرة عليها، وأن يحاولوا رؤية العواقب المدمرة التي يمكن أن تلحق ببلادهم حال استمرارهم في هذه المحاولات الفاشلة.
الولايات المتحدة تجاوزت في سياساتها مبدأ ازدواجية المعايير، وإرتقت إلى مستوى البلطجة العالمية، إضافة إلى ذلك، يخرج الرئيس الأميركي جو بايدن على الملأ ليقول إنّ الولايات المتحدة لا تعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية، أما وزير خارجيته أنتوني بلينكن، فقال إنّ الإدارة الأميركية مستعدة للعمل مع الكونغرس على فرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية بسبب طلب المدعي العام إصدار أوامر اعتقال بحق قادة «إسرائيليين» بشأن حرب غزة.
الأمر غير مستغرب، لأنّ بايدن هو نفسه الرئيس الذي قال إنه ليس شرطا أن تكون يهودياً لتصبح صهيونياً، وأعلن أنه لا يخجل من الاعتراف بأنه صهيوني، بل طالب بتشريع قانون يجرّم معاداة الصهيونية مثل معاداة السامية؛ وبلينكن هو نفسه الذي سافر إلى «إسرائيل» في بداية الحرب وقال إنه لم يحضر بصفته وزيراً للخارجية، ولكنه قدِم بصفته يهودياً وأسلافه ضحايا لمعاداة السامية، ولا مزيد من الاندهاش، لأنّ قائد مشروع قرار معاقبة الجنائية الدولية هو السيناتور الأميركي ليندسي غراهام، وهو نفسه الذي طالب بمنح «إسرائيل» القدرة على ضرب قطاع غزة بقنبلة نووية.
ختاماً، فإنّ الردّ الروسي وإنْ اتسم بالدبلوماسية الباردة، لكن صوابية القرار الروسي في سياق ما تتخذه موسكو من إجراءات للردّ على البلطجة الأميركية، سيكون كفيلاً بإنشاء فريق إقليمي ودولي، يناهض إزدواجية المعايير الأميركية، والأهمّ أنّ روسيا ومن خلال سياساتها تعمل على هندسة واقع يضع واشنطن في إطار الضعف السياسي، بغية تقويض سياساتها، وإجبارها على الانصياع للقرارات الدولية، دون استخدام نفوذها للتأثير على أي قرار أممي.

*خبير الشؤون السورية والشرق أوسطية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى