استيطان وتهجير وضمّ… لذلك وجبت المقاومة في فلسطين!
} فتحي كليب*
في ممارسات منسقة ومتكررة، ارتكبت مجموعات من عصابات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية عدد واسع من الجرائم التي توزعت على قرى ومخيمات فلسطينية في مدن الضفة الغربية: نابلس، رام الله، الخليل، طولكرم وغيرها، وشملت: إطلاق نار، إحراق منازل ومؤسسات وسيارات وأشجار وأراضي زراعية، نصب حواجز مسلحة واعتداءات على أبناء القرى والمخيمات. وجاءت هذه العمليات متزامنة مع اعلانات حكومية إسرائيلية بالتخطيط لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية في مستوطنات الضفة..
هذه الاعتداءات لم تكن الأولى، بل شهدت السنوات والأشهر الماضية آلاف الجرائم من قبل المستوطنين، التي عادة ما ترتكب بالتنسيق مع جيش الاحتلال الإسرائيلي وحمايته. وفي النظر الى مسارها، فلا يمكن توصيفها كأعمال عنفية انتقامية او ردود فعل على أحداث معينة فقط، كما يصوّر ذلك الاحتلال وإعلامه، بل هي ممارسات مدعومة في غالب الأحيان من مؤسسات حكومية ومن مسؤولين سياسيين وأمنيين ومن رجال أعمال ومؤسسات دينية ومن أحزاب مختلفة تقدم كلّ أشكال الدعم المادي والعسكري لمجموعات استيطانية معروفة وتعمل بشكل علني (“شبيبة التلال” و “تدفيع الثمن” وغيرها..) وهي مجموعات مسلحة لديها سجل حافل من الجرائم ضدّ الفلسطينيين في الضفة الغربية..
لم تفاجئ هذه الممارسات احداً، بعد ان وضعت الحكومة الإسرئيلية ومنذ يومها الأول، الاستيطان كأولوية في برنامجها الحكومي، خاصة انّ المكونات الأساسية لهذه الحكومة تتخذ من الاستيطان في الضفة الغربية عنواناً مركزياً لبرامجها السياسية والانتخابية. لذلك فإنّ ما تقوم به مجموعات المستوطنين تشكل الترجمة الفعلية لبرنامج الحكومة الذي وضع الفلسطينيين أمام ثلاثة خيارات: إما القبول بمخطط تصفية القضية الفلسطينية من خلال ضمّ الضفة الغربية والاكتفاء بتحسينات اقتصادية، إما القتل والاعتقال وإما التهجير والترحيل. لذلك ليس صدفة تزامن عدوان المستوطنين مع اقتحامات متكررة لجيش الاحتلال للمدن والمخيمات والقرى ومصادرة الأراضي ونهبها لأغراض الاستيطان، والقاسم المشترك بين ما تقوم به هذه المجموعات وما يرتكبه جيش الاحتلال هو دفع القسم الأكبر من الفلسطينيين الى ترك أرضهم ومنازلهم ثم العمل على تهجيرهم…
لا يمكن النظر الى المشروع السياسي للحركة الصهيونية في فلسطين إلا من خلال ربطه بمسألة الاستيطان باعتبارها عنواناً محورياً، عليه يتوقف مستقبل المشروع برمته، وهذا ما يفسّر اعتبار قانون القومية اليهودية الذي سنّه الكنيست عام 2018 قضية الاستيطان في الضفة الغربية «مسألة قومية».. وعلى هذه الأرضية، فممارسات مجموعات: «شبيبة التلال»، «تدفيع الثمن»، لاهافا ونحالا” وغيرها لا تختلف كثيراً عن إرهاب عصابات “الهاغاناه”، “الأرغون” و”البالماخ”، وكلهم يحملون فكراً عنصرياً يدعو صراحة ليس الى السيطرة على الارض الفلسطينية فقط بل الى قتل وتهجير أصحابها.. وقد لعبت هذه المجموعات دوراً هاماً في حدوث النكبة الفلسطينية الكبرى، بعد ان ارتكبت مئات الجرائم قبل وبعد العام 1948. وراهناً تسير المجموعات الحالية على خطى من سبقها، بعدما أحرقت الطفل محمد أبو خضير في القدس عام 2014، وأحرقت عائلة دوابشة في قرية في قضاء نابلس عام 2015، وهي نفسها التي أحرقت عشرات المنازل ومئات السيارات في بلدة حوارة في مطلع عام 2023… وغيرها الكثير من الجرائم التي لم يثبت انّ الاجهزة الرسمية الإسرائيلية عاقبت مرتكبيها!
في تقرير ذي دلالة صادر عن الأمم المتحدة ويغطي الفترة الواقعة بين 7 تشرين الأول ونهاية شهر شباط الماضي، تبيّن «انّ هناك صعوبة في التمييز بين عنف المستوطنين وعنف الدولة، بما في ذلك العنف بنية معلنة لترحيل الفلسطينيين قسراً من أراضيهم». وتظهر الأرقام التي لا تعكس الواقع على حقيقته، بسبب عدم وصول ورصد مؤسسات الأمم المتحدة لكافة الاعتداءات، انّ هناك ارتفاعاً في وتيرة اعتداءات المستوطنين ضدّ الفلسطينيين حيث تجاوز عددها 750 اعتداء، مع ما رافق ذلك من عمليات تهجير قسري طالت أكثر من 1400 فلسطيني من نحو 20 تجمعاً كنتيجة مباشرة لعنف المستوطنين، إضافة الى استشهاد وإصابة العشرات من الفلسطينيين على يد مستوطنين باستخدام الأسلحة النارية. وينتهي التقرير الى خلاصة رئيسية وتستحق التوقف عندها، وهي «انّ عشرات المستوطنين يرتدون عادة زيّ الجيش الإسرائيلي بشكل كامل أو جزئي ويحملون بنادقه، ثم يرتكبون الجرائم ضدّ الفلسطينيين».
وبعيداً عن عجز الأمم المتحدة بمختلف مؤسّساتها عن ردع الاحتلال في مواصلة سياسات الاستيطان، فقد عبّر تقرير لمفوضية حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عن تداعيات وخطورة السياسات الاستيطانية بقوله: «إنشاء المستوطنات وتوسيعها المستمرّ يؤدّي إلى نقل إسرائيل لسكانها المدنيين، وهو ما يرقى إلى جريمة حرب»… و»أن سياسات الحكومة الإسرائيلية تبدو متماشية إلى حدّ غير مسبوق مع أهداف حركة الاستيطان الإسرائيلية، الرامية إلى توسيع السيطرة طويلة الأمد على الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية ودمج الأرض المحتلة بشكل مطّرد في دولة إسرائيل».. ايّ انّ الهدف المباشر هو السيطرة على الأرض وضمها الى «إسرائيل» وفرض التهجير القسري على سكانها.
لهذه السبب وغيره يعتبر الفلسطينيون بأنّ المستوطنين ليسوا بمدنيين بل هم ميليشيات مسلحة، تعتدي وتقتل، تدمّر وتحرق منازل الفلسطينيين، وتنتهك رموزهم الدينية بحماية جيش الاحتلال. والدول الغربية التي تدعم “إسرائيل” تعلم ذلك لكنها تكتفي بمواقف الإدانة اللفظية، دون ان تقدم على اية خطوات عملية تنسجم مع مواقفها المعلنة برفض الاستيطان وبإدانة ممارسات المستوطنين فقط، وكلّ ما فعلته حتى الآن هو عقوبات على أفراد، تعتبر وبطريقة التعامل الغربي معها تشجيعاً للمستوطنين ومن يقف خلفهم من قوى سياسية وحكومية على مواصلة سياستهم وممارساتهم ضدّ الفلسطينيين.
لقد أصبح المستوطنون في الضفة الغربية جيش رديف يمارس القتل والاعتقال ويصادر أراضي المواطنين ويعتدي عليهم ليل نهار، بعد ان أصبح بيدهم الأسلحة بشكل رسمي وبمعدل قطعة سلاح لكلّ 4 مستوطنين، وهذا ما يفسّر ارتفاع عدد الشهداء في الضفة الغربية.. وفي مواجهة ما سبق، لم يقدّم العالم الغربي إلا الإدانة والاحتجاج، دون اية إجراءات تجبر الاحتلال على الانسحاب من الضفة، ويبدو انّ تلك الممارسات الإجرامية، بنظر الغرب، ليست كافية بعد لينتفض الفلسطيني ويحمل السلاح دفاعاً عن أرضه وشعبه وحقوقه التي تسرق منه بشكل يومي..
إنّ ما أقدمت عليه الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية من إجراءات لم ترتق الى مستوى العقوبات الرادعة، تؤكد انّ تلك الدول تقصّدت عدم إيذاء المستوطنين او إغضاب «إسرائيل» التي رفضت عقوبات تلك الدول واكدت دعمها للمستوطنين وممارساتهم باعتبارهم أبطالاً، كما قال نتن ياهو. ولو كانت تلك الدول جادة في إجراءاتها لكانت استهدفت بعقوباتها الذين يقدّمون دعماً مباشراً للاستيطان والمستوطنين، وهم مسؤولون في الحكومة ورؤساء أحزاب ومنظمات ومؤسسات صهيونية تطرح مخططاتها الاستيطانية والاستئصالية بشكل علني وصريح..
ولتأكيد الازدواجية في التعاطي نأخذ مثالاً حياً ما زالت تداعياته لم تنته بعد: في نهاية شهر كانون الثاني الماضي، لجأت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية والأطلسية الى عقوبات ضدّ وكالة الغوث (الاونروا) التي تقدّم خدمات لأكثر من ستة ملايين لاجئ فلسطيني بسبب اتهام “إسرائيلي” لم تثبت صحته حتى الآن، وقضت بوقف الدعم المالي لفترة، رغم أنها منظمة أممية وبمرجعية الجمعية العامة للأمم المتحدة. أما المستوطنون الذين ارتكبوا عشرات الجرائم المعلومة لهذه الدول والمثبتة في مؤسساتها الاستخبارية وفي تقارير مؤسسات الأمم المتحدة، فقد تمّ الاكتفاء بعقوبات شكلية على أفراد أكدت الأيام أنها لم تؤثر على ممارسات المستوطنين الذين ما زالوا يتحركون بحرية وبدعم مباشر من الجيش الصهيوني الذي يُعتبر شريكاً مباشراً في ارتكاب الجرائم ضدّ الفلسطينيين. ومنطق الأمور يقضي محاسبة هذا الجيش، لكن الذي حصل هو انّ دولة مثل ألمانيا بدل ان تفرض عقوبات على الجيش الإسرائيلي لممارساته الإجرامية ضد الفلسطينيين وتواطئه بدعم جرائم المستوطنين في الضفة الغربية، قامت بتزويده بأسلحة فتاكة ومتطورة.. والنماذج لا تحصى على هذه الازدواجية في التعاطي مع ايّ قضية اذا كانت “إسرائيل” أحد طرفيها..
انّ النتيجة الحتمية للسيطرة على الأرض بقوة الاحتلال هي إجبار السكان على ترك أرضهم، ما يشكل جريمة حرب تضاف الى جريمة الاستيطان التي تعتبر أيضاً انتهاكاً وخرقاً للقانون الدولي أولاً ولعشرات القرارات الدولية التي أدانت الاستيطان في الضفة الغربية وتعتبرها أراضي فلسطينية محتلة ثانياً وعاشراً.. وعلى هذه الخلفية، فانّ الحقيقة المؤكدة التي لا ينبغي ان تكون محط تباين سواء بين الفلسطينيين او بينهم وبين داعمي «إسرائيل»، وهي ان المستوطنين في الضفة غزاة محتلون، ومن حق كلّ فلسطيني بل من واجبه مقاومة المحتلّ الغازي، وعلى كلّ من يزعم دفاعه عن ديمقراطية وعن حقوق إنسان، في عالم غربي غير متوازن في تعاطيه مع فلسطين، أن يدعموا حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة لتحرير أرضه..
على الجميع ان يدرك حقيقة انّ المشكلة أمام الشعب الفلسطيني هي انّ مواجهته للمشروع الصهيوني لم تعد مقتصرة على الاحتلال بشكله المادي التقليدي، كما أنها ليست مواجهة لاحتلال عنصري استئصالي فحسب، بل هو يواجه ما هو أبعد من الاحتلال والاستيطان اليهودي وهو الضم. وقد لا يكون جائزاً بعد اليوم تكرار الحديث الذي يقول: «انّ إسرائيل جيش متوحش بواجهة دولة»، لأنّ ما نحن أمامه اليوم واقع مختلف هو: «مستوطنون متوحشون بواجهة دولة»، يقابله حكومة وأحزاباً ونخب سياسية يشكل الاستيطان والتهجير جزءاً رئيسياً من عقيدتها، وفي مقابل ذلك إدارة أميركية، بل إدارات متوحشة، تقدّم أسوأ ما في النظام الاستعماري الامبريالي من نماذج. وحين يتلاقى التوحش الاستيطاني والامبريالي الاستعماري، لا يصبح أمام الشعب الفلسطيني إلا خيار واحد هو خيار الدفاع عن أرضه ومستقبله في مواجهة جريمة سوف تكبر وتكبر لتتحوّل الى وحش سيخلق الكثير من المشكلات لنا أولا ولغيرنا، لذلك يصبح من حقنا بل من واجبنا كفلسطينيين وكأحرار مقاومته قبل ان يقتل تاريخنا وحاضرنا ومسقبلنا…
*مسؤول دائرة العلاقات الخارجية في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين