العجز الأميركي عن إنقاذ الكيان الغريق
} د. حسن أحمد حسن*
توخّي الدقة في تناول المصطلحات أمرٌ على غاية من الأهميّة. فالمفاهيم العامة تفعل فعلها في رسم محددات طرائق التفكير، وغالباً ما يتمّ تكرار مصطلحات مفتاحية بشكل عفوي لا يأخذ بالحسبان خطورة تكرار استخدام مصطلح واستقراره على أنه من المسلمات التي تؤسس لغيرها من مفاهيم يخلط فيها السمّ بالدسم. والأمثلة كثيرة على ذلك، وأكتفي باستذكار شاهد واحد، فغالباً ما يتمّ تكرار مصطلح الدعم الأميركي للكيان الإسرائيلي، وبغضّ النظر عن حجم هذا الدعم كبيراً كان أم غير محدود أم صغيراً يبقى استخدام مصطلح «الدعم» مساهمة في إخفاء الجانب الأهمّ من الحقيقة، سواء أكان الإخفاء مقصوداً أم عفوياً، فموقف واشنطن من تل أبيب يتجاوز بأشواط موضوع الدعم والتأييد والمساندة، لأنّ واشنطن شريكة في الفعل والجريمة وليست داعمة فقط، بل يمكن القول إذا أردنا أن نكون أكثر دقة في استخدام المصطلحات: إنّ واشنطن هي الشريك الأكبر في الجرائم الإسرائيلية، وبما يفوق فعل المجرم نفسه، لسبب جوهري وواضح، فالكيان النشاز مع الأعراف الدولية وقيم المجتمع الإنساني والقانون الدولي ما كان له أن يكون على ما هو عليه من إجرام وإيغال في العدوانيّة المتوحّشة إلا بالفعل الأميركي المباشر وغير المباشر. ويكفي أنّ واشنطن تشلّ إرادة المجتمع الدولي وتفقده أيّ قدرة على الفعل والتأثير بسطوة الفيتو المرفوع سيفاً مشهراً ومسلطاً على عنق المنظمة الدولية، فكم مرة استخدمت واشنطن الفيتو لحماية تل أبيب في الأشهر التسعة الماضية؟ وكم مرة عطل الموقف الأميركي المعلن انعقاد مجلس الأمن لبحث مشروع قرار مرفوض أميركياً بشكل مسبق؟ وقد يبادر بعض هواة التحليل للقول: لا يجوز تناسي أنّ واشنطن سمحت بصدور قرارين من مجلس الأمن لوقف الحرب على غزة، وإلى أولئك نقول: ما هكذا تورد الأمور، ولا هكذا تقرأ الدلالات، فكلا القرارين الصادرين لا يدينان تل أبيب، ولا يحمّلانها المسؤوليّة عن الجرائم المرتكبة التي توصف بأنها جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب وجرائم إبادة جماعيّة وتهجير قسري ممنهج، وليس هذا فحسب، بل إنّ واشنطن نفسها هي التي سارعت للتصريح بأنّ قرار مجلس الأمن غير ملزم، وهي التي عملت لاحقاً على محاولة إلصاق التهمة بحماس وبقية الفصائل الفلسطينيّة لتحميلها مسؤولية عدم تطبيق القرار، وفي كلتا الحالتين كان واضحاً حرص واشنطن على تجنّب مرجعيّة الفصل السابع للقرارين المذكورين، أيّ إبقاء القرارين من دون فاعلية.
الأمر الآخر الذي لا يقلّ خطورة هو تبنّي المواقف الإسرائيليّة بحرفيّتها في بقية المنابر الدوليّة، وإلصاق التهم وتوجيه التهديدات مرفوعة السقوف لكلّ مَن ينبس ببنت شفة لإدانة كيان الإجرام والتوحّش، بما في ذلك محكمة العدل الدوليّة ومحكمة الجنايات الدولية، وقس على ذلك. وإذا أضفنا إلى هذا وذاك الوجود الأميركي المباشر في مسارح العمليّات الميدانيّة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً منذ السابع من تشرين الأول 2023 يتضح لكلّ من يودّ معرفة الحقيقة أنّ أميركا شريك كامل، ومن موقع القيادة في الحرب الدائرة على جغرافية غزة وبقية جبهات الإسناد، وعندما يرتفع صراخ نتنياهو أو غيره من المسؤولين الصهاينة بالشكوى والتذمّر من تأخر وصول شحنة ما من الأسلحة والقنابل الأكثر طاقة تدميريّة. فهذا لا يعني أنّ مواقف إدارة بايدن تضغط على حكومة نتنياهو قط، بل هو في أحد أوجهه مسرحية سيئة الإخراج والأداء، فالأفعوان الأميركي لا يؤذي فراخه قط، بل يزيد الغدة السمّية تركيزاً لتكون قاتلة لكلّ من يقترب من تلك الأفعى المستولدة القاتلة في جميع أوضاعها وأحوالها. ولعلّ من المفيد هنا التوقف عند بعض العناوين الأساسية لتوضيح الصورة، ومنها:
*الكيان اللقيط منذ انتقال رعايته إلى الحضن الأميركي وهو بكليّته قاعدة عسكرية أميركية متقدّمة. وجغرافيّة الكيان لا تكاد تتسع لمخازن إضافية تغصّ بكلّ أنواع أسلحة القتل والفتك والتدمير الشامل والإبادة ماضياً وحاضراً، وما قد يحتاجه الكيان يصله قبل نفاد الموجود والمكدّس في ترسانته التي حدّد حزب الله أهمّ مواقعها، والتي ستتحوّل إلى أهداف مباشرة قابلة للتدمير الحتمي مع خروج الأمور عن السيطرة، وعندها يدرك العالم أنّ جغرافيّة الكيان بكليّتها مستودعات ومخازن، أو مقار ومصانع لتوزيع الموت وفرضه على الجميع، وهذه المرة ليس بإمكان تل أبيب ولا واشنطن أن تحولا دون وصول الموت إلى صناع القتل والإجرام والإبادة.
*كلّ ما يتمّ تسويقه إعلامياً في خانة، وحقيقة ما يجري في خانة أخرى عسكرياً وسياسياً وحتى تحت عناوين إنسانيّة. والجميع يذكر المسحة الإنسانية الكاذبة التي صبغت الخطاب الأميركي عند الحديث عما أسموه «رصيف بايدن» لضمان دخول المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة. فماذا كانت النتيجة…؟ ما اتّضح حتى الآن اعتماد الرصيف المشؤوم لضمان تمكين جيش الاحتلال من تنفيذ مجزرة مخيم النصيرات بمشاركة أميركيّة مباشرة، ولا أظنّ الأمر يحتاج إلى تحليل معمّق لمعرفة الهدف منذ لحظة الإعلان عن المشروع. فلماذا تنفق التكاليف الباهظة لإقامة رصيف لإدخال المساعدات، وآلاف الشاحنات متوقفة على الجانب الآخر من رفح، ولا تحتاج إلا لفتح البوابة والدخول إلى غزة؟ لكن ذلك ممنوع بمباركة ومشاركة أميركيتين، وما يؤكد ذلك إقدام الاحتلال «الإسرائيلي» بتدمير منشآت معبر رفح بأسلحة وقذائف أميركية، وفوق هذا وذاك تربيت على أكتاف المجرمين واحتضانهم مع كلّ مجزرة أو جريمة مروعة يقدمون عليها.
*عندما يعلن رئيسِ هيئةِ الأركانِ الاميركيةِ المشتركةِ الجنرال تشارلز براون العجز عن تكرار الموقف المتقدّم الذي تمّ اتخاذه عندما قرّرت إيران تنفيذ عملية «الوعد الصادق» رداً على الإجرام الإسرائيلي والتوحش الذي استهدف المبنى القنصلي للسفارة الإيرانية في دمشق، حيث تمّ استنفار الجهود الأميركية والأطلسية لاعتراض الصواريخ والمُسيّرات الإيرانية، فهذا لا يعني ترك الكيان لمواجهة قدره، أو التفرّج عليه وهو يصارع وحيداً قبل الجولة الأخيرة من حتمية زواله، بل يعني استجداء الرأي العام المساند لكيان الاحتلال ألا يطالب واشنطن بما يفوق طاقتها. فالجنرال براون ومن سبقه ومن سيأتي بعده يتمنّون ألا يستطيع طائر سنونو أن يحلق فوق الكيان إلا وفق رغبة تل أبيب، لكن الرغبات والأماني شيء والقدرة على تحقيقها شيء آخر، وقد قالها براون بوضوح إنّهم ليسوا قادرينَ على الدفاعِ عن «إسرائيل» في حربٍ شاملةٍ مع حزب الله، وهذا الموقف الرسمي المعلن من أرفع شخصية عسكرية أميركية ليس لفرك أذن تل أبيب على مواقفها، ولا لإخصاء نتنياهو بعد الرفسات المتكررة التي يوجهها وبقية أركان حكومته العنصرية المتشددة حتى إلى وليّ نعمتهم، بل لصعوبةِ صدِّ الصواريخِ التي يُطلقُها حزبُ الله عبرَ الحدود على حدّ قول رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، أيّ هناك عجز وليس عدم رغبة في المشاركة، أو تقصير في الدفاع عن استمرار الكيان اللقيط وهو يحتضر.
خلاصة:
العجز عن إنقاذ غريق قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة لا يعني تمنّي موته، ولا المشاركة في ذلك، بل يعني المحاولة المشروعة لتجنّب الغرق مع الغريق الذي تزداد خطورة حركاته كلما ضاقت أنفاسه، ولعلّ هذا حال أميركا والكيان الإسرائيلي، فمن يصارع الأمواج لتلافي الغرق لا يستطيع إنقاذ مَن جرفته أمواج الأعاصير إلى لجّ دوامة تبتلع من يدخلها حتى لو كان المسؤول عن أجواء تشكّلها واشتداد حركتها الدائرية التي يصعب التعامل مع تداعياتها، بل يكاد يكون مستحيلاً، ولدى الأميركي اليوم العديد من الدوامات البحرية والبرية القاتلة التي خلفتها العدوانية الأميركية في العديد من بؤر التوتر الساخنة والملتهبة في مسرح العمليات العالمي. ولعلّ هذا ما يلزم الأميركي بالاعتراف سلفاً بالعجز المسبق عن التعامل مع التداعيات، وهذا يدفع للتساؤل: إذا كان ذلك كذلك فلماذا يُصرُّ المجنَّدون الأقزام على التهويل من ويلات جهنّم التي ستفرضها تل أبيب على المنطقة؟ وإذا كان المسؤولون الصهاينة وكبار المحللين والاستراتيجيين يؤكدون على مدار الساعة في الإعلام الرسمي الإسرائيلي أنّ نتنياهو يقود الكيان إلى الانتحار، أو إلى محرقة حتمية في أيّ تصعيد محتمل، فمن حقّ المتابع العادي أن يتساءل: هل مَن يقرعون طبول الحرب، ويعملون على نشر الإشاعات الكاذبة، ومحاولة تعميم التخويف والترويع هم أكثر تصهيناً من الصهاينة أنفسهم؟
سؤال أظنه مشروعاً ولعلّ قادمات الأيام كفيلة بإرغام جميع الأقزام ومشغليهم على ابتلاع ألسنتهم القذرة عندما يكشف هدهد المقاومة بالميدان عما ينتظر أصحاب الرؤوس الحامية والعنتريات العاجزة عن ستر عورة العجز الأميركي والإسرائيلي المشترك.
إن غداً لناظره قريب…
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.