ماذا تقول الخطوط البيانية والجداول المقارنة؟
ناصر قنديل
في علوم الفيزياء والرياضيات تقع الخطوط البيانية والجداول المقارنة في المرتبة الأولى لاستخلاص استنتاجات غير قابلة للنقض والتأويل والفرضيات، وفي علم الاجتماع والسياسة والحرب، بات اللجوء الى الخطوط البيانية والجداول المقارنة الطريق لبناء الخلاصات التي ترسم أو تنقض على أساسها الاستراتيجيات، والتي يبنى عليها الاستشراف وتوضع بناء على وجهتها التوقعات. وخلال تسعة شهور من الحرب التي تدور في المنطقة منذ عملية طوفان الأقصى، تتيح الخطوط البيانية لعدد من المسارات رسم خلاصات نوعية تتيح رسم توقعات قاطعة حول جدية وعدم جدية فرضيات وخيارات معينة، كما تقول الجداول المقارنة بين شروط المواجهات ومواجهات مماثلة فرصة استخلاص معايير واستنتاجات ذات قوة قطعية، ولذلك سوف نعمد إلى اتباع هذين المنهجين في استقراء فرضية شن حرب إسرائيلية على المقاومة في لبنان.
لم يعد خافياً أن نقاشاً سابقاً تم لخوض حرب على المقاومة في لبنان، في الأيام الأولى لحرب الطوفان، وأنه نظراً لطبيعة التحديات الكبيرة التي تمثلها هذه الحرب فإن القرار استقرّ بوحي من مداخلات الجنرالات في الجيش الأميركي وجيش الاحتلال، بربط توقيت هذا القرار بحاصل الحرب في غزة، انطلاقاً من أن نصراً سريعاً في غزة كما كان مقدراً، يمنح الجمهور والجيش والحلفاء روحاً معنويّة وثقة بوجود فرص للفوز بهذه الحرب. وبالقياس لما كان متوفراً في الأيام الأولى للحرب وما هو قائم اليوم، يمكن الاستناد إلى الخطوط البيانية لرؤية هل زادت فرص الفوز بهذه الحرب أم تراجعت؟
تقول الخطوط البيانية، إن نسبة مؤيدي الحرب بصورة عامة في الرأي العام في الكيان قد انخفضت من 94% الى 27%، وإن نسبة تأييد الحكومة ورئيسها انخفضت الى أدنى مستوياتها، دون الـ 24%، وإن فعالية الجيش في الميدان انخفضت من مستوى القدرة على التوغل في مساحة 180 كلم مربع في 4 أسابيع شمال غزة، والعجز عن التوغل في 30 كلم مربع خلال عشرة أسابيع في جنوب غزة مع هجوم رفح، وإن عدد القتلى والجرحى في الجيش قد انتقل من مستوى 50 شهرياً في الشهر الأول إلى مستوى 50 أسبوعياً في الشهر الأخير، وإن نسبة التسرب في الجيش والفرار والتمرد، تبلغ 10% ونسبة الإصابات والصدمات النفسية موازية، ومثلها نسبة الجرحى، وإن الخط البياني الانحداري بصورة مريعة للمجتمع والجيش يوازيه مسار انحداري في القدرة النارية، ومسار سلبيّ في تأييد الشارع الغربي، حيث توصيف الكيان بالإجرام حل مكان اعتباره مثالاً للتمدن.
في الجداول المقارنة يحضر جدول مقارن بسيط بين تجربة حرب تموز عام 2006 وفرضية حرب مشابهة اليوم، حيث تقول الوقائع إن قدرة المقاومة يومها على الصعيد البشري، كماً ونوعاً، كانت نسبة لا تتعدى 25% مما هي اليوم، وربما كانت دون الـ 10% مما هي اليوم وفقاً لبعض التقديرات، وإنها كذلك أيضاً على المستوى التسليحي كماً ونوعاً، وإنه على المستوى المعنوي كانت المقاومة رغم روح التضحية العالية لمقاتليها، قلقة من درجة النجاح في منع جيش الاحتلال من تحقيق اختراقات جغرافية، مع الثقة بجعله في النهاية يدفع ثمناً مرتفعاً للتوغل، مقارنة بجيش كان مزهواً بقدرته على الإنجاز، في اول حرب يخوضها بعد الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000، مقابل جيش مدمّر المعنويات ومنهك من تسعة شهور من القتال، غير واثق من القدرة على النصر. وإذا كانت المنازلة بين هذا الجيش وهذه المقاومة عام 2006 انتهت إلى فشل وحدات النخبة في المشاة من تحقيق أي إنجاز ومجازر أصابت الدبابات والمدرعات في سهل الخيام ووادي الحجير، فإن التنبؤ بنتائج مضاعفة عدة مرات قد تصل الى عشر عشرات لا تبدو مبالغة. أما على صعيد القدرة التدميرية، فيمكن القول إنه مقابل عدم تطور ما لدى جيش الاحتلال، قياساً بما فعله وسوف يكرره في أي حرب، فإن المقاومة باتت قادرة على تدمير موازٍ لم يكن لديها في 2006، حيث محطات الكهرباء والمطارات والقطارات ومنصات الغاز والنفط وخزانات المحروقات والمواد الكيميائية، نتائج مؤكدة للحرب، بينما ثمة شكوك حول قدرة طيران الاحتلال على التمتع بالحرية ذاتها التي كان يملكها في الأجواء اللبنانية عام 2006.
ثمة جدول مقارن آخر يمكن اعتماده أيضاً، وهو طازج، تمثله المواجهة التي حصلت مع الرد الإيراني على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، حيث ظهر وفقاً للكلام الأميركي المتعدد المصادر من قيادات سياسية وعسكرية، أنه لولا التدخل الأميركي لكان الكيان عرضة للتدمير الكامل، وبالرغم من التدخل الأميركي وصل عدد لا يستهان به من الصواريخ والطائرات المسيرة الى الأهداف المرسومة لها، وفي ظل تماثل بين قدرات إيران والمقاومة في لبنان من الزاوية النوعية، حيث الترسانة الإيرانية مفتوحة أمام المقاومة بلا شروط، مع فارق كمّي لصالح المقاومة المضطرة لتخزين كميات ضخمة تحسباً لانقطاع طرق الإمداد في حال الحرب، وفارق بشري لصالح المقاومة أيضاً حيث البنية العسكرية المقاومة أكثر انخراطاً في الحروب وذات ارتباط مباشر بقضية الحرب وجودياً ومعنوياً، يصبح من المهم جداً التوقف أمام ما قاله الجنرال تشارلز براون رئيس الأركان المشتركة للجيوش الأميركية حول استحالة تقديم المساعدة نفسها التي قدمتها القوات الأميركية بوجه الرد الإيراني، انطلاقاً من تمايز إضافي لصالح المقاومة في لبنان هو البعد الجغرافي، حيث التصاق المقاومة بجغرافية فلسطين المحتلة وبعد إيران من جهة، وخرائط انتشار القوات والقواعد والحاملات الأميركية من جهة موازية يجعلان التدخل الأميركي لصد الصواريخ والطائرات المسيّرة المنطلقة من جنوب لبنان أقرب الى الاستحالة.
الخطوط البيانية والجداول المقارنة تحسم بما لا يقبل العقل نقاشه أن الفشل عام 2006 ستحل مكانه هزيمة ماحقة في حال الذهاب لحرب مع المقاومة عام 2024، وأن جيش الاحتلال في أدنى مراتب الكفاءة والجاهزية والحال المعنوية، بعكس المقاومة، وأن الكيان عاجز عن التعامل مع كثافة الاستهداف دون دعم أميركي شكل مصدر الحماية بوجه الرد الإيراني ولن يستطيع فعل الشيء نفسه في حال الحرب مع المقاومة في لبنان، والغبي فقط أو الحاقد من يتوهم ويروج للعكس.