الحرب الواسعة: بين مأزق «إسرائيل» وأسباب معارضة واشنطن
حسن حردان
يبدو أنّ توجه حكومة نتنياهو إلى خفض منسوب الحرب في غزة، بهدف الاتجاه نحو شن حرب واسعة ضد لبنان، يتقدم حيناً ويتراجع حيناً آخر أقله في التصريحات الإسرائيلية، فيما المسؤولون في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن يشددون على عدم تأييد الحرب ويؤكدون على دعم الحل الدبلوماسي، او العمل على خفض مستوى التصعيد في الجبهة الشمالية مع لبنان بعد أن يعيد جيش الاحتلال انتشاره بالخروج من قلب المناطق السكنية في قطاع غزة في إطار ما أطلق عليه تنفيذ المرحلة الثالثة من الحرب بعد الادعاء بتحقيق أهداف عمليته في رفح..
لكن السؤال الذي يطرح في هذا السياق، هو:
لماذا هذا التأرجح الإسرائيلي بين تصعيد خطاب شن الحرب ضد لبنان، وتفضيل الحل الدبلوماسي، وما هي الأسباب الحقيقية التي تدفع واشنطن إلى إشهار معارضتها لقيام حكومة نتنياهو بشن الحرب ضد لبنان؟
أولاً، أسباب التأرجح الإسرائيلي
ان المراقب لتاريخ كيان الاحتلال الاسرائيلي لا بد له من ان يلاحظ انها المرة الأولى التي يتردد فيها القادة الصهاينة في الإقدام على شن الحرب ضد لبنان، ويتخذ هذا التردد طابعاً علنياً تعكسه المواقف السياسية والعسكرية الإسرائيلية.. مما يؤشر إلى مأزق إسرائيلي يقف وراء هذا التردّد.
على أنّ هذا المأزق ينبع من عدم توافر العوامل الإسرائيلية الضرورية لشن الحرب وهي:
العامل الأول، غياب الثقة او اليقين بقدرة جيش الاحتلال على تحقيق النصر في هذه الحرب، وهو أحد أهمّ الشروط التي تشجع القيادات السياسية والعسكرية والأمنية في الكيان على أخذ القرار بشن الحرب، فكيف اذا كان هناك احتمال كبير بأن تؤدي هذه الحرب إلى إلحاق هزيمة كبرى بالكيان تتسبّب بنتائج غير مسبوقة في تاريخه تهدّد بالخطر مستقبل وجوده المصطنع والمؤقت في فلسطين المحتلة، بسبب ما تملكه المقاومة من قدرات تستطيع إحداث تدمير هائل وغير مسبوق في كلّ كيان الاحتلال.. على أنّ احتمال شن الحرب يحذر منه جنرالات صهاينة متقاعدون لهم تاريخ حافل في شن الحروب ضد العرب، ومنهم الجنرال إسحاق بريك، والجنرال عيران اورتال..
ففي حين قال بريك، إنّ حرباً على لبنان ستؤدي الى «خراب الهيكل الثالث».. مشيراً إلى أن نتنياهو وغالانت وهاليفي، «قادرون على اتخاذ قرار كهذا وأن يموتوا مع شعب «إسرائيل» كلّه، لأنهم يدركون أنه لن يكون هناك مكان ليعودوا إليه بعد الحرب…»
قال الجنرال أورتال: «لو كان هناك اعتقاد انه من الصواب خوض حرب ضد حزب الله في 8 أكتوبر، فإنّ الأمر بات أقلّ منطقية حالياً…»
إلى جانب كون الحرب لن تكون سهلة بالنسبة للكيان.. ترى صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن «الحرب على لبنان ستؤدي إلى هزيمة تلحق بإسرائيل…» والسبب في تولد هذه القناعة إنما يعود إلى ان المقاومة باتت من القدرة ما يمكنها من استهداف كل الأهداف الحيوية العسكرية والاقتصادية والمدنية الإسرائيلية وتحويل كلّ فلسطين المحتلة إلى ساحة حرب حقيقية.. لهذا فإنّ إقدام جيش الاحتلال على الحرب الآن بات مخاطرة كبرى، قد تقود إلى هزيمة ثانية، بعد فشله في تحقيق النصر على المقاومة في غزة المحاصرة، وعجزه عن استعادة أسراه، وغرقه في حرب استنزاف أنهكته، وأضعفت معنويات ضباطه وجنوده وكرّست حقيقة انتهاء الزمن الذي كانوا يستطيعون فيه تحقيق النصر في الميدان.. ما يعني انّ رهان قادة العدو على سحق المقاومة في غزة للانتقال بعدها بثقة أكبر إلى شن الحرب ضد المقاومة في لبنان، قد باء بالفشل وجاءت نتيجته مخيّبة لامالهم، بل كرّست هزيمة جيشهم وفشله في استعادة قوة الردع التي ازدادت تآكلاً أكثر من السابق..
العامل الثاني، فقدان الإجماع الإسرائيلي الضروري لشن الحرب، فهذا الإجماع الذي توافر في 7 أكتوبر لشن الحرب أثر عملية طوفان الأقصى النوعية وغير المسبوقة، لم يعد قائماً الآن نتيجة فشل حرب الإبادة الصهيونية في تحقيق أهدافها في غزة، حيث انفرط عقد مجلس الحرب، الذي تشكل في بداية الحرب، وعاد إلى السطح الانقسام الإسرائيلي بين المعارضة والحكومة، وفي الشارع، وبات يزداد أكثر فأكثر مع كلّ يوم تستمر فيه الحرب..
العامل الثالث، الجيش الإسرائيلي الذي سيخوض الحرب غير جاهز لذلك ويحتاج إلى إعادة تأهيل واعداد على كل المستويات، لعدة أسباب:
السبب الأول، حالة الإنهاك التي يعاني منها نتيجة حرب الاستنزاف بفعل حربه المستمرة على قطاع منذ تسعة أشهر، والتي واجه فيها ولا يزال مقاومة ضارية ألحقت به خسائر فادحة بالأرواح والعتاد.
السبب الثاني، ضعف معنويات ضباط وجنود الجيش، على خلفية الفشل في تحقيق أهدافهم، والخسائر الكبيرة التي لحقت بهم والتي أدت أيضاً إلى انتشار الأمراض والاضطرابات النفسية في وسط آلاف الجنود، فيما آلاف آخرون أصبحوا في حالة إعاقة تامة، مما ولد في صفوف جيش الاحتلال عقدة مشابهة لعقدة فيتنام، التي أصابت جيش الاحتلال الأميركي وأدت إلى هزيمته وخروجه من فيتنام مهزوماً تحت ضربات المقاومة الفيتنامية..
السبب الثالث، النقص في عديد جيش الاحتلال بعد فقدانه نحو خمسين ألف ضابط وجندي في الحرب، بين قتيل ومعاق ومريض نفسي..
السبب الرابع، النقص في عتاد الجيش، نتيجة خسارته أكثر من ألف وخمسماية دبابة ومدرّعة وجرافة دمرتها او اعطبتها المقاومة في غزة..
ثانيا، عدم تأييد واشنطن للحرب الواسعة.. فموافقة واشنطن اي حرب تخوضها «إسرائيل» أمر يعتبر من العوامل الأساسية التي تلعب دوراً في اتخاذ حكومة العدو قرار شن الحرب من عدمه، خاصة بعدما تبيّن ان «إسرائيل» غير قادرة على خوض حرب إقليمية على جبهات عدة وتكون إيران منخرطة فيها مع قوى المقاومة، بعد الهجوم الذي نفذته الصواريخ والطائرات المُسيّرة الإيرانية رداً على قصف الطيران الصهيوني القنصلية الإيرانية في دمشق.. والذي شاركت في التصدي له الدفاعات الجوية الأميركية إلى جانب «إسرائيل»، ومع ذلك فقد وصلت العديد من الصواريخ إلى أهدافها في فلسطين المحتلة..
فواشنطن لا تترك مناسبة إلا وتؤكد فيها على عدم تأييد شن الحرب، وتشدد على ضرورة العمل على التهدئة في غزة لخفض مستوى التصعيد على الجبهة مع لبنان.. ويعود ذلك إلى أمرين:
الأمر الاول، أن دوائر صنع القرار الأميركي ترى ان حرباً مع حزب الله ستؤدي الى اندلاع حرب إقليمية ستكون لها نتائج سلبية خطيرة على الكيان الإسرائيلي الذي سيكون مضطراً للقتال على عدة جبهات وبالتالي تشتت جهوده وقواه، في حين أن قوى محور المقاومة لا سيما المقاومة في لبنان تملك القدرة على أمطار الكيان يومياً بآلاف الصواريخ وإحداث تدمير هائل في كلّ البنى والمنشآت الحيوية في الكيان وشلّ كلّ جوانب الحياة فيه، إلى جانب استعداد قوات المقاومة الخاصة للعبور إلى الجليل الفلسطيني المحتلّ وتحريره مما سيشكل خطراً يهدّد وجود الكيان، خصوصاً أنّ ذلك قد يترافق أيضاً مع إقدام قوات المقاومة في غزة للعودة إلى العبور إلى جنوب فلسطين المحتلة، الأمر الذي سيهدّد بالخطر وجود الكيان المصطنع..
الامر الثاني، إنّ الولايات المتحدة لن تستطيع ترك الكيان وحيدا في الحرب، ولهذا سوف تضطر إلى الدخول فيها إلى جانبه للدفاع عنه وحمايته، الأمر الذي سيعرّض القواعد الأميركية في المنطقة لهجمات قوى محور المقاومة بالصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة والمسيرات المتطورة.. مما سيلحق بالقوات الأميركية خسائر فادحة لا قدرة لها على احتمالها…
وفي مثل هذه الحرب لن تتمكن أميركا و»إسرائيل» من تحقيق النصر وستؤدي إلى النتائج التالية:
النتيجة الأولى، المزيد من إضعاف قوة «إسرائيل»، حيث ستصبح أمام أزمة تضعها بين خيارين، تآكل وجودها انْ كان عبر ازدياد منسوب الهجرة المعاكسة، او الاتجاه إلى القبول بتسوية سياسية على أساس إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعودة اللاجئين الفلسطينيين، وهو الاحتمال الذي قد يؤدي إلى نشوب حرب أهلية إسرائيلية داخلية..
النتيجة الثانية، تراجع وإضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة.
النتيجة الثالثة، تنامي وتعزيز قوة قوى محور المقاومة ونفوذها في المنطقة، وإضعاف قوة تأثير الحكومات والقوى التابعة للولايات المتحدة الأميركية.
من هنا فإنّ كلّ العوامل التي ذكرت آنفا لا تساعد القادة الصهاينة على الذهاب إلى شنّ الحرب على لبنان، ولهذا فإنّ الحرب غير مرجحة واحتمال حصولها نسبته ضعيفة.. وهذا ما يفسّر مأزق «إسرائيل» المتفاقم في الشمال، وعودة وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت إلى القول إننا «لا نبحث عن حرب لكننا مستعدون لها اذا اختار حزب الله الذهاب إليها»..
فيما نقلت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية عن ضابط كبير في سلاح الجو الإسرائيلي، ومطّلع على تفاصيل الخطط الحربية، تحذيره في رسالة إلى هيئة الأركان العامة، من «شن عمليات عسكرية بأي ثمن»، وطالبهم بإبلاغ المستوى السياسي «أنّ الجيش ليس جاهزاً لحرب متواصلة في لبنان، وأنّ شن حرب على لبنان سيقودنا إلى كارثة إستراتيجية أكبر من 7 أكتوبر». وقالت الصحيفة في تقرير لـ ألون بن دافيد إنّ «الجيش ليس جاهزاً الآن لحرب واسعة في لبنان، وليس قادراً حالياً على تحقيق إنجاز كبير مقابل حزب الله وتغيير الواقع في الشمال بشكل دراماتيكي. وفي أفضل الأحوال، حرب في الشمال ستنتهي بتسوية سيئة يتمّ التوصل إليها بثمن مؤلم. وفي حالة معقولة أكثر، لن تنتهي الحرب، وستجد إسرائيل نفسها في حرب استنزاف متواصلة»..
وهذا يعني انّ كلّ العوامل التي تحتاج إليها حكومة العدو لشنّ الحرب غير متوافرة، فيما الذهاب إلى الحرب ستؤدي اما إلى هزيمة تزلزل الكيان وتقود إلى تداعيات قد تفجره من داخله، او إلى التورّط في حرب استنزاف تقود بدورها إلى تقويض أسس وجود الكيان..
انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول إنّ فشل الحرب الإسرائيلية في غزة وغرق جيش الاحتلال في حرب استنزاف ذات كلفة عالية، وانخراط قوى المقاومة في المنطقة في المعركة ضدّ الكيان إسناداً ودعماً لغزة ومقاومتها، وكشف المقاومة في لبنان عن بعض من القدرات النوعية التي تملكها، وعرض فيديو الهدهد الذي بيّن بدقة امتلاك المقاومة بنكاً كاملاً لكلّ الأهداف الحيوية في الكيان، وانها تستطيع ضربها.. كل ذلك شكل رادعاً لقادة العدو من مغبة التجرّؤ على شنّ الحرب الواسعة، وجعلهم يتخبّطون ويعانون من مأزق الخيارات المميتة بالنسبة للكيان، في حالة ذهب إلى محاولة الهروب من مأزق فشله في غزة للحرب الواسعة، تجنباً من دفع ثمن هزيمته في غزة، او في حالة تراجع خوفاً من ان يدفع ثمناً أكبر في حال شنّ الحرب…