أخيرة

مهنة الطب وأخلاقيات الطبيب

 

‭}‬ سارة طالب السهيل‬‬

الأطباء هم فرسان نبلاء يدافعون عن حق الإنسان في حياة كريمة خالية من الأمراض، ويتفانون في إنزال الرحمة وبسطها على كلّ موجوع وعاجز عن تحمّل الألم، فكانت شفقة الطبيب مع مرضاه وتعاطفه النفسي معهم وتواضعه لهم بقبول سيل استفساراتهم للاطمئنان بقدرته على علاجهم أساساً وفي شفائهم سريعاً، وربما بشكل يفوق تصوّر الطبيب المعالج نفسه، لسبب بسيط لكنه جوهري، هو الراحة النفسية والطاقة الإيجابية من الرحمة والتعاطف التي يبثها الطبيب تجاه مرضاه.
حالات مرضية كثيرة ذهبت لكبار الأطباء وذوي الشهرة والصيت في تخصصات طبية مختلفة، ولكنها لم تكمل «كورسات» العلاج لأنّ المرضى لم يشعروا براحة نفسية مع هؤلاء الأطباء، والبعض الآخر أكمل «كورس» العلاج على مضض وعلى غير قبول نفسي للطبيب ولم تؤدّ الى الشفاء.
وكم من حالات مرضية أخرى ذهبت للتداوي عند أطباء أقلّ شهرة وأرخص أجراً في «الكشف» وتمّ شفاؤهم بسرعة من أمراض ربما كانت مستعصية، لأنهم استجابوا روحياً ونفسياً ووجدانياً لملاطفة أطبائهم و»سياساتهم» في اللين وإظهار شفقتهم على مرضاهم.
فالطب على ما يتطلبه من مهارة وخبرة وتقنيات علمية، هو أيضاً فنّ في التعامل مع المرضى وفيه جزء نفسي يكاد يضاهي العضوي، لكن في زمننا المعاصر، نجد الأطباء أكثر حرصاً على تعلّم التقنيات الحديثة وتوظيف الأجهزة السريعة التي تشخّص الأمراض بسرعة وتجد الدواء لكلّ حالة بالضغط على الجهاز الحديث أمامه، دون ان يقيم أية علاقة إنسانية مع مريضه، فلا يظهر تعاطفه معه ولا يمتلك من الصبر الكافي لإجابة مرضاه عن استفساراتهم بشأن حالاتهم المرضية، فالمريض صار في عالمنا المعاصر مجرد رقم في «كشف» زبائن العيادة يتمّ التعامل معه بشكل آلي وليس إنسانياً.
وقد يجعل الطبيب مريضه نهباً لكلّ أنواع الفحوص والأشعة والأدوية التي قد لا يحتاج منها إلا النذر اليسير فيصبح المريض فرصة وزبون سهل يتمّ استنزافه مادياً ونفسياً.
في حين أنّ مهنة الطب مهنة مقدسة من بعد الأديان السماوية، وفي الحضارات القديمة كان للطبيب قواعد تحكم علاقته كالتي وضعها ملك بابل حمورابي عام 2100 ق. م لتحديد الأطباء وحماية المريض ومراعاة الحالة الاقتصادية لطرفي المعادلة الطبيب والمريض، وانْ كانت تشريعات حمورابي قد شدّدت على مسؤولية الأطباء عن ايّ ضرر يقع على المريض أثناء علاجه، بجانب مراعاة الطبيب للحالة المالية للمريض فيأخذ من الفقير أجراً أقلّ من الغني. وبمقارنة هذه القيَم، بالقيَم التي وضعها حمورابي بما يجري الآن لوجدنا الإنسانية قد تراجعت رحمتها بالضعفاء كثيراً خاصة في عصر طغت فيه المادة والمال علي أية قيمة اخرى، فمن لا يملك مالاً فقد لا يجد طبيباً يعالجه من كبار المتخصصين لا سيما اذا كانت حالته خطيرة، وبعض المرضى قد يستدين من الغير او يبيع ممتلكاته لتغطية نفقات العلاج الباهظ ولا يجد من الرعاية النفسية التي يتطلبها شعوره بالأمان عند تلقي العلاج على أيدي طبيب شهير.
تبرز أهمية الجانب الأخلاقي في مهنة الطب ومكانتها عند الفلاسفة والحكماء ومنهم الإمام الشافعي في تقديسه لعلم الفقه وعلم الطب في قوله المأثور: «فالعلم علمان، علم للدين وهو الفقه، وعلم للدنيا وهو الطب». وقال الشافعي أيضاً «لا أعلم بعد الحلال والحرام أنبل من الطب إلا أنّ أهل الكتاب قد غلبونا عليه».
فمهنة الطب مهنة سامية لا ينبغي ان تدنّس بالأطماع الدنيوية أو بالتعالي على المرضى، فقد كنت أفكر لماذا لا يتمّ تدريس الأطباء الخلق الإنساني وكيفية التعامل مع المرضى والشق الذي به رحمة ورأفه وأيضاً إعطاء الأمل والتفاؤل والطاقة الإيجابية وتفاجأت عندما قرأت بأنّ جمعية الطب العالمية تدعو إلى تدريس الأخلاق الطبية وحقوق الإنسان ضمن المواد الإجبارية في برامج تدريسها. ولكن هل نفذ هذا لا أعلم؟
ويوضح كتاب الأخلاقيات الطبية الذي حرره جون وليامز مدير قسم الاخلاقيات الطبية بجمعية الطب العالمية، مميّزات الأطباء الأكفاء في امتلاكهم مشاعر الشفقة نحو مرضاهم، وإدراك مدى أوجاعهم حتى يتمكن من معرفة العوارض التي تسبّبت في الاصابة بمشاكله المرضية ومن ثم تيسير علاجها. واستشعار المرضى بأنّ الطبيب مدرك أوجاعهم يجعلهم يستسهلون تلقي «كورسات» العلاج وتنفيذ تعليماته بكلّ أريحية.
والميثاق الإسلامي العالمي للأخلاقيات الطبية والصحية يقرّر واجب الطبيب نحو المريض، فيوجب على الطبيب ان يحسن الاستماع لشكوى المريض وتفهم معاناته وحسن معاملته والرفق به عند الفحص الطبي، ولا يجوز له ان يتعالى على المريض او ينظر اليه نظرة يسخر فيها منه، مهما كان مستواه العلمي والاجتماعي، وأياً كان انتماؤه الديني او العرقي وان يحترم وجهة نظر المريض، لا سيما في الأمور التي تتعلق به شخصيا.
والميثاق يوجب على الطبيب الحرص على المساواة بين جميع المرضى، وان لا يفرّق بينهم في الرعاية الطبية بسبب تباين مراكزهم الأدبية والاجتماعية او بسبب جنسهم او لونهم او انتمائهم الديني او العرقي.
ويدعوميثاق الطبيب إلى اجراء الفحوص الطبية اللازمة للمريض، دون اضافة فحوص اخرى لا تتطلبها حالته المرضية. ويتوجب على الطبيب العمل على تخفيف آلام المريض بكل ما يستطيع وما يتاح له من وسائل وقائية وعلاجية مادية ونفسية واستخدام مهاراته في طمأنة المريض والتخفيف عنه.
المرضى في الالفية الثالثة للميلاد يجدون بوناً شاسعاً بين اخلاقيات الطب المتعارف عليها، وبين واقع مؤلم يجبرهم للانتظار ساعات طويلة لإجراء فحوصات لانهائية لتشخيص حالتهم، وغالباً ما يجد تعاطف وشفقه من أطبائهم.
ولذلك فإنني ادعوالي ضرورة استعادة الاطباء لدورهم الإنساني والاخلاقي في حياتنا، وان تقوم الجامعات الطبية بفرض دراسة علم النفس في معالجة المرضى لان ذلك عناصر حسم في شفاء الأمراض وتخفيف الالام، وتدريب الاطباء على التواضع مع المرضى لأنّ ما يعانونه من آلام حطمت معنوياتهم وكسرت أنفسهم، ولا سبيل لتحمل الآلام بمعزل عن تواضع الطبيب ورحمته وشفقته بمرضاه. وكلنا نعلم انّ نصف الأمراض حزن وكآبة ونصف الشفاء أمل وسعادة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى