ليس وقت الشماته… لكن من يأخذ العبر؟
ناصر قنديل
– تقول الأحداث المتقابلة على طرفي الحدود السورية التركية، إن ما يجري من صدامات وحركات احتجاجية في الشارع وبيانات تحريضية وحرق أعلام وبيوت ومحال تجارية ليس مجرد صدع قابل للعلاج بين الدولة التركية وحلفائها من الجماعات المسلّحة في شمال غرب سورية، لأن ما يجري يكشف مناخاً عدائياً عابراً في الشرائح الاجتماعية على طرفي الحدود الى حدود العنصرية. وإذا عدنا للذاكرة وفي ذروة العداء التركي لسورية وكيف وقف الرئيس السوري بشار الأسد يدعو الى الانتباه لخطورة إحراق العلم التركي، “لأن تركيا كانت جارتنا منذ آلاف السنين وستبقى جارتنا لآلاف السنين، والأتراك يحترمون علم بلادهم وتؤذيهم رؤية مشاهد حرقه كما نحترم علم بلادنا ولا نرضى برؤية الإساءة إليه، بينما تتكرر مشاهد إحراق العلم التركي مراراً وتكراراً دون أن يخرج صوت واحد يدعو للعقل من صفوف الذين كانوا حتى الأمس يتحدثون عن مآثر الاحتضان التركي للمعارضة وموقفها الداعم لمعارك هذه المعارضة، و”مساندتها للشعب السوري واحتضانه واستيعاب اللاجئين منه ومنحهم الكثير من التسهيلات والفرص”، وكأن كل شيء تبخر خلال لحظة وصارت تركيا هي العدو، حتى أن دعوات انسحاب القوات التركية من تجمّعات هذه المعارضات والميليشيات الرديفة لها، صارت تحاكي مطالبة الدولة السورية ومؤيديها بهذا الانسحاب. بينما على الضفة المقابلة من الحدود، ورغم محاولة السلطات التركية تصوير الأعمال العدائية العنصرية ضد السوريين مجرد تحريض موضعيّ لبعض جماعات المعارضة التركية، تقول الوقائع إن موجة عنصرية عامة تجتاح الشارع التركي ضد السوريين، على خلفية الضائقة الاقتصادية من جهة، والشعور بأن زمن الإيواء زاد عن حدوده الطبيعية، وآن الأوان لحلول تعيد النظر بالسياسات وتنفتح على الدولة السورية كأمر واقع فشلت محاولات إضعافه أو إسقاطه. وموجة العداء هذه لها مثيلاتها لدى بعض اللبنانيين، وهي فرع من أصل موجود في أوروبا كلها ضد المهاجرين كلهم، وقد تحولت الى سياسة هذه الأيام مع صعود اليمين.
– يمكن لمن لا تهمه السياسات أن يقف متفرّجاً شامتاً، بمن يفترض أنهم حلف الخصوم أو الأعداء، وأن يرى في تقاتلهم وانقلاب بعضهم على بعض خيراً، لكن الحقيقة هي أن مواطنين سوريين أبرياء هم الذين يسقطون بفعل هذه الأحداث، كما يجري كثيراً عندما يتعرّض النازحون السوريون لأعمال انتقامية في بعض المناطق اللبنانية رداً على حادث إجرامي ارتكبه أحد النازحين، أو انتشار شائعة تتصل بحادثة منسوبة إلى أحد النازحين، كما جرى بعد حادث مقتل المسؤول القواتي في جبيل باسكال سليمان.
– في السياسة يوجّه السؤال أولاً للقيادة التركية التي قايضت فرص التفاهم مع الدولة السورية المطروحة أمامها على الطاولة قبل الحرب التي تورطت فيها تركيا ضد سورية، وخلالها وبعدها، ولا تزال مطروحة، واختارت بديلاً لهذا التفاهم الرهان على احتواء وتبني جماعات مناوئة للدولة السورية ينتمي غالبها لفكر متطرّف إرهابي تكفيري، ومنحتها الدعم والحماية وبقيت تناور في ترجمة التفاهمات التي تمّت في مسار أستانة لاستئخار ساعة إنهاء هذا الوضع الشاذ الذي سلخت بموجبه أجزاء من الجغرافيا السورية عن الوطن الأم. والسؤال هو ببساطة، هل استفاد الأمن القومي التركي من هذا الرهان؟ وما هي الفوائد؟ ما دامت الذريعة التركية هي مواجهة ما تسمّيه أنقرة بخطر جماعات كردية مسلحة تقول إنها امتداد لحزب العمال الكردستاني، وهي لن تجد طريقاً لتفادي خطر هذه الجماعات إلا بالتفاهم مع الدولة السورية. وهي تعلم أن غطاء الحليف الأميركي السياسي والعسكري لهذه الجماعات هو مصدر قوّتها، وأن التفاهم مع الدولة السورية هو طريق إضعافها وإضعاف مشروعها الانفصالي، ما يجعل أي حديث عن فوائد لاحتلال أجزاء من سورية لمفهوم الأمن القومي التركي مجرد كذبة سمجة، لكن هل استفادت تركيا من هذا الاستثمار على هذه الجماعات لتحصل على ذراع يمكن لها استخدامه في معارك إقليمية أو في بناء نفوذ لاحق في سورية الموحّدة عبر دمج هذه الجماعات في قلب الحياة السورية السياسية؟ والجواب تقدمه المشاهد العدائية لتركيا التي تتصدّر مواقف هذه الجماعات، لتقول إن عشر سنوات من الدعم والرعاية تبخرت وتحوّلت الى حال عداء لمجرد أن تركيا بدأت تعيد حساباتها، وأن هذه الجماعات هي من استعملت تركيا لخطتها، وعندما قرّرت تركيا البحث عن مصالحها، لم تجد حتى كلمة شكر على ما قدّمته خلال سنوات.
– السؤال الثاني في السياسة هو للمعارضات السورية التي تزعم أنها صاحبة مشروع تغيير يحفظ وحدة الجغرافيا الوطنية في سورية، وأنها تحالفت مع تركيا كعمق لهذا المشروع، ومع الجماعات المسلحة المتطرفة كذراع عسكريّ لبلوغ هذا المشروع، فماذا تقول الوقائع اليوم، هل تبدو تركيا سنداً يمكن الاعتماد عليه خارج مصالحها كدولة استعملت المعارضات السورية عندما كان ذلك متاحاً بما يتناسب مع أوهامها أو أحلامها وتطلعاتها أو أطماعها. وعندما فرضت الوقائع عليها تغيير السياسات غيّرت ولم تقم حساباً للحظة لمصير هذه المعارضات، وبالمثل ليس ظاهراً بقوة أن الجماعات المسلحة التي ركبت على ظهر المعارضات، قد تمسكنت حتى تمكّنت، وهي اليوم صاحبة مشروعها الخاص، حيث لا قيمة لما يقوله ويدّعيه قادة المعارضات عن مسميات ثورة وحكومة مؤقتة وجيش حر وسواها من أسماء بلا أجسام ولا حضور ولا فعالية، حيث الكلمة الفصل لمن يملك القوة، ومن يملك القوة هي هذه الجماعات المسلحة.
– السؤال الثالث هو للسوريين الذين صدّقوا أن بلداً غير بلدهم يمكن أن يكون بديلاً يأويهم ويحتضنهم، وصدقوا أن ما صنع لهم من وهم قضية وثورة لم يكن مجرد خديعة لاستخدامهم في لعبة دولية إقليمية كبرى أرادت تدمير ما هو مشرق في دولتهم، وهو استقلالها وتمسكها بسيادتها، ومستوى ما قدّمته من أمن وخدمات ورخاء لشعبها، وأنه بعدما تدمير الكثير من هذه الصورة المشرقة بأيدي السوريين غالباً واستنفدت الحرب أهدافها، وبعدما صمدت الدولة السورية بمن بقي معها من شعبها، انتهت المهمة، وبدأ المسيرة العكسية، وانتهى الدلال للذين صدّقوا كذبة الثورة. وما يجري في تركيا مع السوريين عينة مما سوف يجري في أماكن كثيرة أخرى في أوروبا وغير أوروبا، وأن العودة الطوعيّة بكرامة الى سورية، أفضل ألف مرّة من العودة ببطاقة سفر باتجاه واحد قسراً، أو العودة بتابوت.