مقالات وآراء

روسيا وكوريا الشمالية علاقات استراتيجية وقلق أميركي

‭}‬ د. حسن مرهج*
توسيع دائرة الشراكات الاستراتيجية. هو مبدأ جيو استراتيجي اعتمده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في هندسة علاقاته الخارجية التي تُعتمد كمنهج وطريقة بغية مواجهة النفوذ الأميركي، فـ بوتين يدرك بأنّ الولايات المتحدة تعمل على أكثر من مسار، لـ محاصرة روسيا وكسرها سياسياً واقتصادياً، لكن واشنطن وفق منظور بوتين، فإنّ أكثر ما يؤلمها ويعرقل سياساتها، هي شراكات استراتيجية بعيدة المدى مع أعدائها، من هنا فقد اعتمد بوتين هذه الاستراتيجية، وذهب بعيداً في علاقاته مع إيران والصين والعديد من الدول الشرق أوسطية، ومؤخراً كوريا الشمالية، وما تعنيه الأخيرة من هاجس استراتيجي للولايات المتحدة.
إذن بوتين في كوريا الشمالية. الخبر غير عادي أميركياً، فـ بوتين الذي زار بيونغ يانغ وسط ترحيب حار من المسؤولين الكوريين، وبينما وصل كيم جونغ أون شخصياً إلى المطار لإجراء مراسم استقبال، التقى الزعيمان بعد أن أبدى كلاهما علاقات ودية، وذهبا في سيارة الليموزين نفسها إلى دار الضيافة الحكومية في كومسوسان. الزيارة هي الأولى لـ رئيس روسي إلى كوريا الشمالية بعد 25 عاماً، والزيارة الثانية لـ بوتين إلى بيونغ يانغ، وبهذا المعنى فقد تمّ إعلانها زيارة مهمة للغاية في الوقت الحالي.
في مقال افتتاحي نشرته وسائل الإعلام الرسمية في كوريا الشمالية قبل الرحلة، شكر بوتين بيونغ يانغ على دعمها لموقف روسيا ضدّ التصرفات الغربية في الأزمة الأوكرانية، قائلاً إنّ «البلدين متفقان بشدة مع منع الطموحات الغربية وإنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب يقوم على «الاحترام المتبادل والعدالة». وفي المقال الذي ظهر على الصفحة الأولى من الصحيفة الرئيسية للحزب الحاكم في كوريا الشمالية، وعد «بتطوير تجارة بديلة وأنظمة جديدة للدفع المتبادل، لا يسيطر عليها الغرب»، و»بنية أمنية متساوية وغير قابلة للتجزئة في أوراسيا».
الإعلام الغربي كعادته حاول إظهار الزيارة على أنها عادية، وأرادت وسائل الإعلام الغربية، إظهار التقارب بين كوريا الشمالية وروسيا على أنه نتيجة للتطورات التي حدثت في السنوات الأخيرة، ويرجع ذلك أساساً إلى الأزمة الأوكرانية والقضايا المرتبطة بها، إلا أنّ الحقيقة هي أنّ وراء العلاقات المتنامية الجديدة بين البلدين تاريخ مهم.
ومن المهمّ التذكير بأنه وخلال الحقبة السوفياتية السابقة، كانت بيونغ يانغ وموسكو حليفتين استراتيجيتين، وتشكلت كوريا الشمالية الشيوعية في بداية الحرب الباردة بدعم من الاتحاد السوفياتي، ودخلت كوريا الشمالية في وقت لاحق في مواجهة عسكرية مع كوريا الجنوبية وحلفائها، الولايات المتحدة والأمم المتحدة، من عام 1950 إلى عام 1953، بمساعدة واسعة من الصين والاتحاد السوفياتي.
وكانت كوريا الشمالية تعتمد بشكل كبير على المساعدات السوفياتية لعقود من الزمن، وأدى انهيار الاتحاد السوفياتي في التسعينيات وتورّط موسكو في المشاكل الداخلية إلى تأجيج الأزمة الاقتصادية في كوريا الشمالية، لكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي واعتماد الصين سياسة الباب المفتوح، كحليف شيوعي آخر لبيونغ يانغ، تجاه الرأسمالية الغربية، أعقب ذلك تعاون بكين وموسكو مع سياسات العقوبات الأميركية والغربية في مجلس الأمن ضدّ الأزمة النووية في الجزيرة الكورية عام 2006، ما تسبّب بفتور علاقات كوريا الشمالية مع روسيا.
لكن بعد التجربة النووية الأخيرة لكوريا في عام 2017، اتخذ كيم خطوات لإصلاح العلاقات مع روسيا، حيث التقى بوتين للمرة الأولى في عام 2019 في مدينة فلاديفوستوك الروسية.
وفي عام 2022، استأنفت روسيا وكوريا الشمالية السفر بالقطارات، الذي كان متوقفاً منذ جائحة كوفيد 19، حيث حملت الشحنة الأولى 30 حصاناً أصيلاً، ما يرمز إلى بداية حقبة جديدة من التبادلات التجارية بين البلدين.
وبعد ذلك بوقت قصير، استأنفت روسيا صادرات النفط إلى كوريا الشمالية، ويقول الخبراء: إنّ الغالبية العظمى من تجارة كوريا الشمالية تمرّ عبر الصين، لكن روسيا شريك محتمل مهمّ، وخاصة في ما يتعلق بإمدادات النفط، ونفت موسكو انتهاك عقوبات الأمم المتحدة من خلال تصدير النفط إلى بيونغ يانغ، لكن الأمم المتحدة تتهم الناقلات الروسية بالمساعدة في التحايل على العقوبات المفروضة على صادرات النفط إلى كوريا الشمالية.
ربطاً بما سبق، فإنّ زيارة بويتن إلى كوريا الشمالية، أثارت قلقاً أميركياً، وبطبيعة الحال فإنّ القلق الأميركي ترجمته وسائل الإعلام الأميركية، وكذلك تصريحات البنتاغون، إذ أنّ زيارة بوتين لكوريا الشمالية ومواقفه من توقيع اتفاقيات تعاون مع بيونغ يانغ، لم تحظ بقبول الغربيين، وقد أعرب المسؤولون الأميركيون، الذين يعتبرون الزيارة بمثابة رسالة من بوتين بشأن عجز الغرب عن عزل موسكو، عن قلقهم إزاء «تعميق» التعاون بين روسيا وكوريا الشمالية، وخاصة أنّ الزيارة جرت في وقت أصبحت فيه موسكو قادرة مرة أخرى على ذلك، لبدء جولة جديدة من التقدم وتحقيق النجاح العسكري.
المتحدث باسم البنتاغون الجنرال باتريك رايدر قال: إن «تعميق التعاون بين روسيا وكوريا الشمالية أمر ينبغي أن يكون مصدر قلق، وخاصة لأيّ شخص مهتمّ بالحفاظ على السلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية»، كما زعم المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي: «نعلم أنّ الصواريخ الباليستية الكورية الشمالية لا تزال تستخدم لاستهداف أهداف أوكرانية، وربما تكون هناك بعض الإجراءات المضادة هنا التي يمكن أن تؤثر على أمن شبه الجزيرة الكورية».
إذن… يبدو واضحاً أنّ الولايات المتحدة وفي هذا التوقيت، هي بصدد البحث عن محددات لإجهاض التقدم الروسي في سياق هندسة علاقات استراتيجية بعيدة المدى، ولعلّ العقل الأميركي لا يمكنه استيعاب ما تقوم به السياسة الروسية، من إيران إلى الصين وصولاً إلى كوريا الشمالية العدو النووي اللدود للولايات المتحدة، والأهمّ أن القادم من روسيا سيزيد الهاجس الأميركي، وهذا ما تعكسه تحركات بوتين…
*خبير الشؤون السورية والشرق أوسطية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى