أولى

المشهد العربي «وطوفان الأقصى»

‭}‬ زياد حافظ*
عملية «طوفان الأقصى» تستوجب قراءة جديدة للمشهد العربي حيث المفاهيم الموروثة من حقبة اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور يجرفها الطوفان المذكور. فالتغيير في المعادلات الدولية والإقليمية ستنعكس حتماً على المشهد العربي بشكل عام وخاصة على تركيبة النظام الرسمي العربي. بالمقابل، فإن عملية «طوفان الأقصى» ستساهم بشكل كبير في تغيير المعادلات الإقليمية والدولية. فالمشهد في النظام الرسمي العربي يختلف عن المشهد عند الجماهير العربية. والتباين يزداد يوماً بعد يوم وقد بدأ قبل «طوفان الأقصى» عبر تنامي الحركة العربية الشعبية المناهضة للتطبيع. ويمكن التساؤل إذا ما كانت قراءة موازين القوّة عند النخب الحاكمة كانت قد بدأت أم لا قبل عملية «طوفان الأقصى».
إن مقاربة الموقف الرسمي العربي العام لما يجري في فلسطين يتطلّب قراءة متأنية للتطوّرات التي حصلت قبل «طوفان الأقصى» وأثناءه. الخيار الوحيد للنخب الحاكمة في الدول العربية هو إما التحاق الحكومات العربية بشعوبها وإما الدخول في منازلة شاملة معها مع تجذّر ثقافة مقاومة استطاعت أن تواجه كلاً من الكيان الصهيوني والهيمنة الغربية في آن واحد. لا نعتقد أن الحكومات ستأخذ منحى المنازلة مع شعوبها بعد تجربة «الربيع العربي» وبعد تنامي عدم الجدوى في الرهان على الغرب والكيان الصهيوني. كما أن الالتحاق بشعوبها لم يتبلور حتى الساعة. فطالما أن نظرية «99 بالمئة» من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة ما زلت قائمة عند بعض النخب العربية وإن تزعزعت وأن المدخل لرضى الولايات المتحدة هو عبر الكيان الصهيوني فإن الموقف العربي لن يكون مختلفاً عما كان عليه حتى الآن.
لكن التحوّلات التي حصلت في المشهد العربي قبل «طوفان الأقصى» قد تعود إلى بداية مراجعة مواقف عدد من الأنظمة العربية لموازين القوّة المتغيّرة في العالم والإقليم وفي الوطن العربي. فالقمم العربية السابقة كانت منذ بداية الألفية الحالية منخرطة في فلك الولايات المتحدة. هذه القمم غطّت سياسياً احتلال العراق، وفي ما بعد العدوان الصهيوني على لبنان سنة 2006، كما غطّت العدوان الكوني على سورية في العقد الثاني من الألفية، وتدمير ليبيا، وتقسيم السودان، والتحالف العدواني على اليمن. ونضيف أن النظام العربي غطّى عبر سكوته جرائم الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني. لكن في النصف الثاني من العقد الثاني للألفية الثالثة تبيّن أن الولايات المتحدة إما عاجزة أو إما غير راغبة في توفير الحماية لدول الخليج والجزيرة العربية وأنها على استعداد التخلّي عن شخصيات وأنظمة كانت موالية لسياساتها إذا اقتضى الامر. فعجز أو عدم رغبة الولايات المتحدة في الدفاع عن المرافق النفطية في الجزيرة العربية كانت بداية المراجعة حيث عدد من الدول العربية بدأ بنسج علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مع كل من روسيا والصين. وبعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض والنفور الواضح للإدارة الجديدة تجاه دول الخليج ساهم في توثيق العلاقات بين هذه الدول وروسيا والصين والجمهورية الإسلامية في إيران.
أما عملية «طوفان الأقصى» فكانت نقطة بداية تحوّل في الموقف العربي الرسمي تجاه العدوان الصهيوني تجلّى في القمة العربية والإسلامية التي انعقدت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 والتي أصدرت تنديداً واضحاً بالعدوان وعدم تبنّي الموقف الأميركي منه. لم يصدر إدانة لعملية «طوفان الأقصى» ولم يتم اعتبارها «مغامرة غير محسوبة» كما اتهمت المقاومة الإسلامية في لبنان في تموز/ يوليو 2006. صحيح أن مستوى القرارات الصادرة عن تلك القمة لم تتجاوب مع طموحات الشعب العربي الذي كان ينتظر إجراءات عملية ككسر الحصار على غزة وفتح معبر رفح كحدّ أدنى أو كإلغاء اتفاقيات التطبيع مع الكيان أو الدعم المادي والسياسي للمقاومة. لكن ما صدر عن القمة هو التأكيد على أنّ الاستقرار في غرب آسيا لن يكون إلاّ بحلّ عادل للقضية الفلسطينية، وهذا ما لا تريده الولايات المتحدة ونخبها الحاكمة. العودة إلى تبنّي مركزية القضية الفلسطينية في التقييم العربي كانت هزيمة للدبلوماسية الغربية وخاصة الأميركية التي جهدت على مدى عقود لإخراج القضية الفلسطينية من اهتمامات النظام العربي الرسمي.
أما القمة العربية الأخيرة التي انعقدت في البحرين في منتصف شهر أيار/ مايو 2024 فكرّست مطالب المقاومة دون أن تقرنها بإجراءات لتنفيذها. وهذه القرارات وإن كانت دون سقف الآمال بإجراءات عملية كتعليق اتفاقات التطبيع أو استعمال أوراق الضغط على المجتمع الدولي كورقة النفط والغاز أو سحب الأموال العربية من الأسواق الغربية، وذلك على سبيل المثال وليس الحصر، إلاّ أنها كانت منسجمة مع قرارات قمة 2023. كما لم تأت القمة بجديد سواء الدعوة إلى مؤتمر دولي وإعادة إحياء مشروع الدولة الفلسطينية دون التحديد كيف يمكن إقناع الولايات المتحدة.
وليس هناك من كلام واضح حول طبيعة تلك الدولة وإذا ستكون كاملة السيادة أو تحت وصاية دولية أو عربية وعلى أي بقعة من فلسطين. كما أن حلّ الدولتين المطروح لا يجيب على كيفية التعاطي مع المستوطنين المستعمرين في الضفة ولا كلام عن عودة الفلسطينيين في الشتات (وغزّة) إلى فلسطين. قضايا عديدة ولا إجابات واضحة ما يدلّ أن الموقف الرسمي العربي يفتقد إلى رؤية واضحة وما يستوجب من التزامات لدعم صمود الفلسطينيين. هذا الموقف الفضفاض والملتبس يدلّ على أن النظام العربي ما زال يحاول التوازن بين عدم الصدام مع الولايات المتحدة والكيان وإرضاء الشارع العربي والفلسطيني. هذا يعني أن النظام العربي الرسمي ليس جاهزاً حتى الآن لتحديد خيارات وسياسات جديدة في انتظار مصير المواجهة القائمة في فلسطين. لكن رغم كل هذه الملاحظات التي تشير إلى عدم جهوزية النظام الرسمي العربي لتحمّل أعباء نصرة فلسطين إلاّ أن قرارات القمة تستدعي الملاحظات التالية:
أولاً – إن الدعوة لعقد مؤتمر دولي جاءت بموافقة ضمنية من الولايات المتحدة هي تراجع ملموس من الولايات المتحدة التي لم تكن تقبل حتى الماضي القريب لأي دور لمؤتمر دولي. ولقد كانت تجربة المؤتمرات الدولية السابقة من مدريد إلى أوسلو إلى الرباعية المشؤومة فاشلة فماذا يمكن أن تقدّم المحاولة الجديدة إلا الإقرار بالتغيير في موازين القوّة لصالح محور المقاومة؟
ثانياً – إن الدعوة لنشر قوّات دولية أو عربية في «أراضي فلسطين المحتلة» وبغض النظر عن فعالية أو جدوى تلك الخطوة، فذلك يعني سحب الثقة من الكيان وثبيتاً لعجزه على فرض الاستقرار. كما يعني إدخال الدول المساهمة في نشر القوّات إلى التدخّل في شؤون الكيان الذي رفض تاريخياً أي دور للمجتمع الدولي.
هذا وقد سبق انعقاد القمتين توافقاً عربياً على عودة سورية إلى الجامعة العربية بعد عقد من المقاطعة والحصار السياسي والاقتصادي. وهذا التوافق العربي قد يشكّل ترجمة لقراءة التغيير في ميزان القوّة بين محور يناهض الهيمنة الغربية وخاصة الأميركية ومحور تابع للولايات المتحدة. وتحقّقت عودة سورية رغم الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على الدول العربية لمنع ذلك. صحيح أنه لم تحصل قطيعة مع الولايات المتحدة حتى الآن لكن نفوذها يشهد تراجعاً ملحوظاً. والدليل على ذلك الرحلات المكوكية للمسؤولين الأميركيين للضغط على الحكومات العربية وخاصة مصر وبلاد الحرمين ولبنان لتجنيدها لتبنّي مختلف سياسات الولايات المتحدة لاحتواء «طوفان الأقصى». ومن علامات «التمرّد» النسبي للدول المحسوبة على الولايات المتحدة رفض كل من الرئيس السيسي وولي العهد في بلاد الحرمين والعاهل الأردني ورئيس السلطة الفلسطينية الاجتماع بالرئيس الأميركي بعد المجزرة التي ارتكبتها قوّات الاحتلال بمستشفى الشفاء في غزة.
وفشلت الولايات المتحدة في تجنيد كل من مصر وبلاد الحرمين ودولة الإمارات (التي انضمت إلى منظومة بريكس) في حلف يسقط الحصار البحري الذي فرضه اليمن على السفن التابعة للكيان والسفن المتجهة إلى الكيان طالما كان العدوان على غزّة قائماً. وهذا الفشل دليل آخر أن دولاً مركزية في النظام العربي الرسمي لم تعد تنظر إلى إملاءات الولايات المتحدة كأنها قدر عليها وذلك بغض النظر عن الدوافع التي يمكن أن تكون وراء مواقفها المستجدة في التعامل معها. لكن هذه الاستقلالية النسبية الجديدة ما زالت في بداياتها والوقت سيدّل على جدّية الموقف المستجد.
الاستراتيجية الأميركية والصهيونية الضاغطة على الدول العربية تعطي بعداً آخر لمشاريع التطبيع. فالتطبيع لا يهدف فقط لإدخال الكيان في المنظومة العربية الإسلامية في غرب آسيا وشمال أفريقيا بل له أهداف استراتيجية سياسية في مواجهة محور المقاومة. والهدف الرئيسي هو جعل التطبيع أداة لمواجهة المقاومة ونهجها وثقافتها. فلا قيمة للتطبيع إن لم يؤدّ إلى الانخراط في الحرب المفتوحة مع المقاومة. التطبيع البارد القائم منذ كامب دافيد عليه أن يتحوّل إلى مواجهة مع المقاومة ومع مَن يدعم المقاومة في الدول العربية. وهذا لن يحصل. فإذا كان الحصار الاقتصادي كقانون قيصر المفروض على كل من سورية ولبنان لا يكفي. فالتطبيع هو استكمال لمشروع إسقاط المقاومة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. غير أن الحراك الشعبي المناهض للتطبيع متجذر ويحقّق إنجازات ملموسة كضغط على الحكومات العربية وفي مقاطعة البضائع الصهيونية والأميركية التي لها امتدادات في الاقتصاد الصهيوني. ومناهضة التطبيع عنصر أساسي في تغيير موازين القوّة في الوطن العربي يتلازم مع الضعف الملموس في القدرات الغربية وخاصة الأميركية. فإذا فشلت الإدارة الأميركية في كبح الحراك الشعبي والطالبي في الولايات المتحدة فكيف يمكنها أن تنجح في الوطن العربي؟ ويعود لجهود مكوّنات المؤتمر العربي العام أي المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي ومؤتمر الأحزاب العربية والجبهة التقدّمية ومؤسسة القدس في دفع التنسيقيات لمناهضة التطبيع في مختلف الأقطار العربية. المظاهرات التي حصلت في كأس العالم في قطر في 2022 كانت من ثمرة مناهضة التطبيع. والعدوان الصهيوني والمجازر التي يرتكبها في غزة كانت دافعاً إضافياً لتنشيط مناهضة التطبيع.
فشل موجة التطبيع يعود إلى طوفان الأقصى وانتصار المقاومة في فلسطين هو انتصار لكل مكوّنات المحور وانتصار المحور يعني إيجاد وقائع سياسية على الأرض لا يمكن تجاهلها. وهذا الانتصار يتلازم مع تراجع بل انهيار المنظومة الغربية التي كانت مسيطرة على القرار العربي وبالتالي أفاق التغيير أصبحت مفتوحة. فالمقاومة هي العمود الفقري للتغيير في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في منطقة غرب آسيا. والتغيير المقبل في غرب آسيا سينعكس على دول الجزيرة العربية ودول وادي النيل والقرن الأفريقي ودول المغرب. نحن أمام تحوّلات كبيرة تعيد النظر في شرعية الكيانات القائمة وفي مراجعة إرث سايكس بيكو.
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي
والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى