إيران تنتخب رئيسها: مرونة الدولة وثوابت الثورة!
د. عدنان منصور*
بعد الفاجعة التي حلّت بإيران نتيجة حادث المروحية التي أوْدت بحياة رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان وعدد من المسؤولين، علت أصوات، وصدرت تعليقات، وتحليلات وتكهّنات في أكثر من مكان في العالم، تقول إنّ إيران بعد رئيسي ستشهد حالة من الاضطرابات والفوضى، ستضع النظام أمام واقع جديد يشكل تحدياً جدياً له.
لا يريد هؤلاء الذين ما كانوا يوماً إلا على عداء «فطري» مع إيران منذ تأسيس جمهوريتها، أن يتتبّعوا مسار الدولة والثورة التي مرّت بفترات عصيبة للغاية، عندما أوْدى انفجار دبّره إرهابيون في مكتب رئيس الوزراء محمد جواد باهنار عام 1981، أوْدى بحياته وحياة رئيس الجمهورية محمد علي رجائي، وعدد من كبار المسؤولين.
وأيضاً عندما فرضت على الجمهورية الفتيّة عام 1980 حرب مدمّرة دامت لثماني سنوات.
في خضمّ هذه الأحداث الاستثنائيّة كما الأوضاع الطبيعيّة، كانت الدولة الإيرانيّة على مدى 45 عاماً تجري الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والبلدية، وانتخاب أعضاء مجلس خبراء القيادة، في مواعيدها المحدّدة عملاً بنصوص الدستور بكلّ دقة وشفافيّة.
ها هي إيران اليوم، بعد رحيل رئيسها، تلتزم مجدّداً بالدستور نصاً وروحاً، وتجري الانتخابات في فترة زمنيّة قصيرة واستثنائية بهدوء لافت، مما يدلّ ويؤكد على أنّ النظام الإيراني كما الثورة، لا يتوقف عند رحيل رئيس، أو أن يكون مستقبله مرهوناً به مهما علا شأنه وكان دوره.
رئيس الجمهورية في إيران يقود البلاد وفقاً لأحكام الدستور والمبادئ والأسس الثابتة التي أرستها الثورة الإيرانية منذ انتصارها، وهي أسس يتوجب على أيّ رئيس إيراني يأتي إلى رأس السلطة، أن يلتزم بها ويحترمها، أكان من تيار المحافظين أو الإصلاحيين.
قد يكون لرئيس الجمهورية خططه، وبرنامجه، وتصوّره، وأسلوبه في إدارة الجمهورية، لا سيما في الداخل، بغية إجراء الإصلاحات الضرورية، والنهوض بالبلاد، وإيجاد الحلول للمشاكل الاقتصادية والمعيشية والخدمية. وعلى الصعيد الخارجي، ما يترتب على الرئيس الجديد العمل على مواجهة العقوبات الدولية التعسّفية، وكيفيّة التعاطي معها، والحدّ من تأثيرها، من خلال توسيع مروحة علاقات إيران السياسية مع الدول الصديقة، وتعزيز وتمتين العلاقات معها، وعلى الأخص مع مجموعة بريكس، وشنغهاي، والوقوف الى جانب الشعوب المقهورة، وبالذات الى جانب الشعب الفلسطيني، والمقاومات في المنطقة التي تهدف الى إزالة الاحتلال الإسرائيلي، والتصدي لسياسات الهيمنة والنفوذ للقوى الغربيّة على المنطقة.
يكون واهماً إذا ما راهن أحد من الذين وضعوا أنفسهم في خانة الكراهية والعداء المطلق لإيران منذ اليوم الأول لقيام جمهوريتها، على أيّ رئيس إيراني، يمكنه أن يأخذ إيران وثورتها الى الموقع الذي يرضي دول الغرب أو غيرها التي تتعارض مصالحها وسياساتها الاستراتيجية مع سياسات إيران، أو أن ينحرف عن ثوابت ومبادئ الثورة داخلياً وخارجياً، أكان محافظاً او إصلاحياً. إذ أنّ النظام الإيراني يختلف عن غيره من الأنظمة السائدة في العالم، في طبيعته وخصوصيته. إذ إنّ قائد الثورة، المرشد الأعلى للجمهورية، بما له من صلاحيات واسعة بموجب الدستور، تفوق بكثير صلاحيات رئيس الجمهورية، هو الضامن لمسيرة النظام، وثوابته، واستمراريته. الفقرة 10 من المادة 110 من الدستور تجيز له عزل رئيس الجمهورية إذا ما تعارض مع مصالح البلاد، وذلك بعد تصويت أكثرية ثلثي النواب على عدم كفاءته، ورفع الأمر لقائد الثورة لاتخاذ القرار المناسب.
بالإضافة الى ذلك، فإنّ سياسات رئيس الجمهورية وقراراته، تخضع لرقابة مؤسسات دستورية عليا، كمجلس صيانة الدستور، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، ومجلس خبراء القيادة، ومجلس الشورى.
إذا كان هناك من مجال واسع، وحرية حركة يستطيع رئيس الجمهورية من خلالها أن يقوم بمهامه على أكمل وجه، إلا أنّ تحرّكه هذا، لا يعني أنه بصلاحيّاته يستطيع أخذ إيران الى مواقع تتعارض مع مبادئ الثورة وثوابت الجمهورية.
من هنا يتبيّن لمن يتابع الحياة السياسية الإيرانية، عن كثب، أنه ومنذ 45 عاماً، تغيّر الأسلوب، والنهج، والتكتيك من رئيس إلى آخر، إلا أنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ النهج غيّر استراتيجية إيران الداخلية والخارجية أو تعارض مع ثوابت ومبادئ النظام الإسلامي.
إيران منذ 45 عاماً، ومع مختلف رؤساء جمهوريتها، كانت سياستها الخارجية واضحة تماماً، لجهة رفضها الدخول في الأحلاف العسكرية، وعزمها على الوقوف في وجه قوى التسلط والهيمنة، وعدم المساومة على حقوق شعب فلسطين، أو التخلي عن دعمها لشعوب المنطقة التي تتطلع الى الحرية والتخلص من نير النفوذ الأجنبي، ورفض الاعتراف بـ «إسرائيل» أو القبول بوجودها.
الذين يراهنون اليوم على الرئيس الجديد لإيران، ويتوهّمون أنّ تغييراً جذرياً ستشهده السياسة الإيرانية، بعد رحيل الرئيس إبراهيم رئيسي، يخطئون في الشكل
والأساس، إذ انّ إيران لا تُحكم بمزاجية رئيس الجمهورية، وتفرّده بالسلطة والقرار، كي يغيّر سياساتها 180 درجة، وإنما تُحكم بسياسة تتقيّد بمبادئ ثورتها، وضوابط دستورها وقوانينها. وهذا ما يجب أن يعرفه كلّ المراهنين، والمعادين على الدوام للنظام الإيراني.
في أحلك الأوقات والأزمات والظروف القاهرة التي مرّت بها إيران، كانت صناديق الاقتراع تقول كلمتها بكلّ حرية وشفافية، أكان الرئيس المنتخب ينتمي الى تيار المحافظين او الى تيار الإصلاحيين.
إنّ شفافية الانتخابات الرئاسية، تجعل الخاسر فيها يتقبّل خسارته، دون أن يشكك بنزاهتها او يعترض على نتيجتها، كما يحصل في العديد من دول العالم. وما انتخابات الرئاسة الأميركية التي جرت عام 2020 وجاءت بـ جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، وما حصل أثناءها وبعدها من اتهامات وشتائم متبادلة، وتشكيك في نزاهة العملية الانتخابية من قبل المرشح الخاسر ترامب لخير دليل على ذلك!
رغم الحصار والعقوبات الشرسة التي لا مثيل لها، حيث لا تزال تفرضها واشنطن وحلفاؤها في العالم على طهران، تتابع إيران مسيرة تطورها في مختلف المجالات بخطى واثقة، وعزيمة قوية، تعزّز وتنهض بقدراتها الاقتصادية، والصناعية، والزراعية، وتمضي قدُماً في تطوير قطاعاتها العلمية، والمعرفية، والفضائية، والتكنولوجية، والعسكرية بكلّ ثقة وجدارة.
صحيح أنّ إيران تشهد أوضاعاً اقتصادية ومعيشية ومالية ضاغطة نتيجة العقوبات المفروضة، وهي أوضاع تحدّث عنها بإسهاب كلّ المرشحين الستة للرئاسة، فكان لكلّ منهم تصوّره، وسياسته المستقبلية للخروج من الوضع الاقتصادي الصعب، لكن النظرية شيء، والممارسة والأداء شيء آخر. هنا يشعر المواطن الإيراني بالإحباط جراء الحالة الاقتصادية والمعيشيّة الصعبة وفشل الرؤساء السابقين بوضع حدّ لها، ووقف تراجع العملة الوطنية أمام الدولار، وعدم السيطرة على التضخم المتواصل.
إنها إيران الثابت والمتحرك: الثابت مبادئها، والمتحرك سياساتها. فلا تعارض بين السياسات المتحركة للرئيس الجديد للجمهورية، وثوابت مبادئ النظام الإسلامي الإيراني.
بين المتحرك والثابت، تبقى الحالة الاقتصادية الرقم الصعب في مهمة رئيس الجمهورية الجديد الذي سيطل اليوم على إيران (سعيد جليلي أو مسعود بزشكيان؟) فهل يحقق إنجازات فاعلة على الأرض كما وعد، حيث لم يستطع نظراؤه السابقون تحقيقها؟!
سعد إيران يراه شعبها بين «سعيد ومسعود»، فمن يكون…؟!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.