الانتخابات في أوروبا والانقلابات الكبرى إلى أين؟
ناصر قنديل
لا يبدو الحديث عن الموجة اليمنية الكاسحة في أوروبا دقيقاً، عندما نعاين نقطة الانطلاق وهي البرلمان الأوروبي، حيث تجسّد تقدّم اليمين بحصوله على ربع مقاعد البرلمان وحلوله في مرتبة الكتلة الأولى المنظمة، لكن مع استحالة بلوغه تشكيل غالبية حتى مع التحالفات المفترضة، ومقابل تقدّم نوعي في فرنسا لليمين يمكن أن يتيح الحصول على أغلبية كافية لتشكيل حكومة، تأتي الانتخابات البريطانية والانهيار الكبير لموقع حزب المحافظين مقابل صعود حزب العمال بصورة ضاعف خلالها عدد مقاعده ونال الأغلبية البرلمانية، تسقط نظرية الى اليمين در. ويجب البحث عن جامع مشترك في مشهد يبدو أن الثابت فيه هو تحوّلات سياسية كبرى وانقلابات في مزاج الرأي العام.
الانقلابات تجري على خلفية جامعة في أوروبا عنوانها الوضع الاقتصادي، الذي يسجل ركوداً مستمراً منذ جائحة كورونا، تلاه تضخم كبير على إيقاع حرب أوكرانيا وانقطاع سلاسل توريد الطاقة من روسيا، وارتفاع أسعار الطاقة إلى أضعاف السعر التقليدي وامتداد تأثير ذلك على كل جدول أسعار السلع والخدمات، واستطراداً تأثيره على الصناعة والزراعة، وبالتالي تراجع فرص العمل وتراجع قدرة الأجور على تلبية الحاجات الأساسية للعاملين، مع تدهور في الضمانات الاجتماعية والصحية، ولا يبدو في هذا المشهد أن الناخب يدقق في مدى قدرة البديل على تقديم حلول وبرامج موثوقة للخروج من الأزمات، ولذلك يختار الناخب البريطاني حزب العمال، ويختار الناخب الفرنسي أقصى اليمين، كما لا يبدو أن السياسات الخارجية حضرت بحجم مؤثر في الخيارات الانتخابيّة، حيث يبدو الموقف إعلاماً للوافدين الجدد الى الحكم مشابهاً مع بعض التمايزات عن الحاكم الخاسر في الانتخابات، وفي قضية حرب غزة التي تهز شوارع فرنسا وبريطانيا، يلتقي ماكرون واليمين على دعم كيان الاحتلال ومثلهما يفعل حزبا العمال والمحافظين.
الواضح هو أن الحقبة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة أوروبياً توشك على الانتهاء، وتؤذن بالرحيل، حيث كانت عناوين تلك المرحلة دعم أميركيّ مشهود لقيام الاتحاد الأوروبي باعتباره الوعاء الجاذب لاستقطاب دول شرق أوروبا الخارجة من الحلف الذي قادته موسكو لعقود، وهو البديل الجذاب الذي يوحي بالرفاه لحلف الناتو الذي يذكّر الشعوب بالحرب، وقوام الجاذبية هنا ثلاثية عملة موحدة توفر قدرة شرائية عالية يستند سعر العملة إلى مجموع عناصر قوة الاقتصادات الأوروبية ويعيد توزيع الدخل بواسطة اعتماد العملة الموحّدة، بمثل ما يستند سعر الدولار الى مجموع اقتصادات الغرب بل العالم، ويتنعم بعائدات سعره وقوته الأميركيون وحدهم. وفي الحالة الأوروبية الحامل هي اقتصادات غرب أوروبا، وخصوصاً ألمانيا وبريطانيا وبنسبة معينة فرنسا وإسبانيا، وإلى جانب العملة الموحدة القوية، حرية تنقل لليد العاملة الرخيصة في دول شرق أوروبا نحو مناطق الأجور المرتفعة في غرب أوروبا، والبضائع الزراعية الرخيصة من الشرق نحو أسواق الأسعار المرتفعة في الغرب، وكل ذلك تحت أمل بلوغ لحظة انهيار روسيا تحت ضربات الحصار الغربي، وفرض شروط الحصول منها على الطاقة الرخيصة المناسبة لمنافسة النمو الصيني، لكن هذا ببساطة لم يحصل وفشل فشلاً ذريعاً وبات مستحيلاً ان يحصل بعد فشل العقوبات وتردداتها على الاقتصادات الأوروبية، وانهارات زراعة وصناعات الحرفيين وفرص العمل في اقتصادات غرب أوروبا لينعم عمال ومزارعو وذوو الدخل المحدود في شرق أوروبا بالرفاه. وهذا كان معنى الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وهذا معنى الالتفاف وراء يمين فرنسي يعد بتخفيض حجم البعد الاندماجي للاتحاد الأوروبي لصالح صيغة تحالفية.
بالتوازي رافقت مرحلة صعود الاتحاد الأوروبي ضخامة الجسم السياسيّ للاتحاد، ما أضعف فعالية الدور الشعبي المباشر في تصعيد النخب السياسية، لصالح صعود فعاليّة المولود الجديد المسمّى بوسائل التواصل الاجتماعي، وحجم القدرة على التلاعب بتأثير هذه الوسائل وخوازرمياتها لتسويق وترويج نخب وأفكار ومشاريع سياسية. وهكذا وصلت نخب ترتبط عضوياً بالمؤسسات الأميركية الأمنية والمصنعة عبر أجهزة المخابرات، وظهرت قيادات من الفراغ والعدم، وهكذا صار ريشي سوناك رئيس وزراء في بريطانيا وإيمانويل ماكرون رئيساً لفرنسا، والانتفاضة الانتخابية التي تشهدها أوروبا في جزء منها استعادة لروح العملية الانتخابية وتأثير التصويت المباشر في صناعة القادة، لكنها بطريقة موازية عملية تصويت عقابية لقيادات تميّزت بالتفاهة، وفقدان كل عناصر الجاذبية، والذهاب الى النقيض الأشد تطرفاً ضدها والأكثر عدائية، وهذا ما يفسّر كيف يذهب الذين يتظاهرون بمئات الآلاف في شوارع فرنسا وبريطانيا لمساندة غزة، لانتخاب قادة لا يختلفون في موقفهم من الحرب على غزة عن الحاكم الحالي، والسبب أنهم لا يريدون التفريط بفرصة خلع الحاكم وليس لديهم الثقة بأنهم يملكون رفاهية الاختيار نحو قيادات جديدة تطابق تطلّعاتهم، فالأهم يسمو على المهم، والأهم هو أن يرحل الحكام الحاليون.
ربما هذا ما يفسر كيف حصد اليمين في فرنسا أكثر من ضعفي حصته السابقة، ومثله فعل العمال في بريطانيا، كما يفسر كيف خسر حزب ماكرون أكثر من نصف مقاعده ومثله أصاب المحافظين، دون أن يكون لدى من انتخب اليمين في فرنسا والعمال في بريطانيا جواباً على سؤال حول الميزة الجاذبة في برنامج البديل ترد على إشكالية تمثل أولوية يتطلع الى حلها، ولذلك تذهب أوروبا الى مرحلة من الفراغ السياسي والفوضى الحزبية المديدة قبل ان تكتشف طريقاً للاستقرار، ربما يكون بعيد المنال حتى تتبلور صورة نهاية الحرب الأوكرانية ومعها موازين القوى النهائية داخل أوروبا لكل من روسيا وأميركا.