كلما جاء حدث جديد… قلنا قال سعاده!
ناصر قنديل
– هذه أيام عبق شهادة كتبت لتاريخ شعبنا وقضايانا الكثير من المعاني والعبر والحقائق والثوابت، فعندما وقف أنطون سعاده بشموخ الأبطال يتلقى رصاصات الإعدام واثقاً من أن شعبه وحزبه سوف ينتصران، كان يعبر عن صدق قراءته للتاريخ، ومعنى ما أسماه بـ “الحياة كلها وقفة عز فقط”، ومن ينظر خلال شهور تسعة مضت، تحل نهاية شهرها التاسع مع يوم شهادة سعاده، سوف يقول إن ما تفعله غزة ومقاومتها، هو الانتصار بقوة هذه المقولة التي حفرها سعاده على جبين التاريخ رسالة للأمة في لحظات الشدّة، وهل أبهى من صورة غزة ومقاومتها في وقفة العز تصنع منها الحياة؟
– في كل سنة نستعيد ذكرى شهادة سعاده، يفرض الحدث مقاربة من زاوية لمعنى ما تركه لنا سعاده، فكلما عصفت رياح الفتن الطائفية، تذكّرنا عظمة سعيه وعقيدته وحزبه، في بناء قومي عابر للطوائف، متمسك بوحدة النسيج الاجتماعي، وكلما ضاقت الحدود بمصالح الشعوب، تذكّرنا سعاده ووحدة المصالح ودور الحياة في كيانات الأمة، فالحديث عن كهرباء أردنية تعبر من سورية الى لبنان، ليس اكتشافاً أميركياً معطلاً بخبث السياسة الاستعمارية، بل اعتراف أميركي بحقيقة قالها سعاده مبكراً، وحتى عندما جاء الإرهاب يحاول صياغة مشروعه في المنطقة، وجد نفسه أمام حاجة موضوعيّة لتكسير جدران الحدود، فتموضع على حدود سورية مع كل من العراق ولبنان والأردن، لأن لا فرص حياة لأي مشروع، حتى لو كان رجعياً، إلا بالانفتاح على جغرافيا كيانات الأمة، فكيف بمشروع نهضتها؟
– في هذه الأيام التي تحضر فيها قضية الصراع المركزية في بلادنا من بوابة حرب طوفان الأقصى، وتستعيد للقضية الفلسطينية وهجها، وتعيد طرحها كقضية أولى على جدول أعمال العالم، وتثبت قوى المقاومة قدرتها على الصمود والثبات وصناعة الإنجازات، تعيد المقاومة حقيقة سعاده الخالدة، “إن فيكم قوة لو فُعلت لغيرت وجه التاريخ”، وها هي تغيّر وجه التاريخ، وفي قلب هذه الحرب التي قلبت موازين المنطقة، بعدما كان البعض بدأ يبشر بزوال العداء لكيان الاحتلال وسلوك طريق التطبيع معه، وطي صفحة الصراع بصفته مجرد صراع عابر، جاءت حرب الطوفان، لتكشف حقيقة الكيان الوحشيّ الإجرامي القائم على نقيض كل الأعراف والمواثيق والشرائع، وتثبت استحالة التساكن والتعايش مع بقائه، وتقول إن صراع الوجود مع هذا الكيان لا يحلّ إلا بالقوة، وفي الخطاب الذي ألقاه في أوّل حزيران عام 1949، قبل استشهاده بثمانية وثلاثين يومًا قال سعاده: “تقوم اليوم في الجنوب (أي فلسطين) دولة جديدة غريبة كنت أترقّب قيامها… ولكني كما أعلنتُ قيام تلك الدولة أعلن اليوم محق تلك الدولة عينها، ليس بقفزة خياليّة وهميّة، بل بما يعدّه الحزب القومي الاجتماعي من بناء عقديّ وحربيّ يجعل من سورية قوة حربية عظيمة تعرف أنّ انتصار المصالح في صراع الحياة يقرَّر بالقوة بعد أن يقرّر بالحق»، و“إن محق الدولة الجديدة المصطنعة هو عمليّة نعرف جيدًا مداها. إنها عملية صراع طويل شاقٍ عنيف يتطلّب كلّ ذرة من ذرات قوانا لأن وراء الدولة اليهوديّة الجديدة مطامع دول أجنبية كبيرة تعمل وتساعد وتبذل المال وتمدّ الدولة الجديدة بالأساطيل والأسلحة لتثبيت وجودها”.
– وضع سعاده عقيدته الواضحة بناء على رؤية عميقة في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلوم السياسة والاستراتيجية، مقدّماً مقاربات عبقريّة لا تزال راهنة حتى يومنا هذا، ولذلك كان وحزبه من أوائل المبشّرين بالمقاومة والناهضين بمسؤولياتها، وها هو الصراع الذي تخوضه قوى المقاومة ومن خلفها تضحيات شعب لا يهزم، تقول إن رؤية سعاده وعقيدة سعاده، أصابت ولا تزال تصيب، وتبقى للغد صائبة، وإن عظمة شهادته تتجسّد بأنها منحت المصادقة التاريخية على عظمة القائد بمنزلة تحاكي عظمة العقيدة.
– ها نحن مرة أخرى تأتي الذكرى، ونجد أنفسنا أمام حدث جديد، لكننا كما كل مرّة نقول قال سعاده.