أولى

شهيد الأمة!

استشهاد أنطون سعاده كان درساً وعبرة… انّ تحرير الأمة من الاستعمار والحكام الفاسدين لا يتحقق إلا بالمقاومة والدم والدموع وأنّ الاستشهاد في سبيلها استحقاق يدفعه أبناء الحياة الجديرون بها

‭‬ د. عدنان منصور*‬
*وزير الخارجية الأسبق

كبير من كبار هذه الأمة، ومفكر نهضوي متميّز، ومقاوم جسور في عقيدته وفكره وأدائه. بذلَ حياته من أجل استنهاض أمة، وتحريرها من نير الاستعمار والرجعية، وقوى الهيمنة والاستبداد.
ما كان أنطون سعاده إلا النبض الحي لأبناء أمته وتطلعاتهم، وآمالهم، ونضالهم من أجل الحرية والوحدة وكرامة الإنسان.
لقد أدرك مبكراً بحسّه الوطني، وبصيرته المتوقدة، ووعيه القومي، ما أحاط ويحيط بهذه الأمة من مؤامرات، وأخطار، وسياسات شرسة، تهدّد وجودها، وتاريخها، وأمنها ووحدتها، ومستقبلها.
لقد هالته حالة الأمة التي ساد فيها الفقر والجهل، والتمزق، والتعصب، والتخلف والانحطاط، وما عانته من مآسٍ وويلات لأكثر من أربعة قرون على يد الاحتلال العثماني البغيض لبلادنا المشرقيّة، الذي جثم على صدر أهلها، والتي عانت منه الكثير الكثير من الويلات وسياسات البطش، والقهر، والظلم، والتعصب، والتفرقة، والطائفية المقيتة. حتى اذا ما سقطت الدولة العثمانية وأفل نجمها ورحلت عن بلادنا، وجدت المنطقة المشرقية نفسها من جديد، امام احتلال من نوع آخر، ظرفت تسميته بالانتداب البريطاني والفرنسي، حيث كانا وجهين لسلوك استعماري واحد.
لقد فرض الانتداب الفرنسي على لبنان نظاماً طائفياً قبيحاً، لا نزال نعاني من تداعياته السيئة حتى اليوم، وايضاً، الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين، وما رافقه بعد ذلك من زرع الكيان الصهيوني على أرضها.
جاء الزعيم أنطون سعاده، في موعده مع أمته، ليلهب مشاعر أبنائها، ويحرك وجدانهم وضميرهم، بعد أن كانت تتحكّم دول الهيمنة والتسلط في الخارج، بالتحالف مع قوى الرجعية في الداخل المتمثلة بالإقطاع السياسي والاقتصادي، والمالي، والإعلامي، والثقافي والطائفي، مع ما رافق ذلك من فساد وإفساد طال مختلف المؤسسات وأجهزة الحكم.
كان أنطون سعاده من أوائل الذين نبهوا الى الخطر الصهيوني، الساعي إلى إنشاء دولة عنصرية في فلسطين مهددة لوجود الأمة. لذلك كان هدفه الرئيس، مقاومة الاحتلال الصهيوني، وتحرير أمته من قوى الرجعية والتسلط والاستبداد. لقد رأى في المقاومة قدر الأمة، حيث لا مكان فيها للضعفاء، والمتخاذلين، والمحبطين. إذ أن حقوق الشعوب لا تؤخذ إلا بالقوة وبالمقاومة ولا تستجدى من القوى الكبرى، وأن تحرير الأرض والإنسان ليس صدقة يتم بالوقوف على أعتاب دول الاستعمار، وأن استقلال الأمة وسيادتها وحريتها، والدفاع عن ثرواتها، لا يتحقق بالتسكّع على أبواب السفارات!
كان أنطون سعاده قومياً اجتماعياً، عابراً للطوائف والمذاهب، متحرّراً من القيود والعادات والتقاليد الرجعية البالية، التي قيّدت مجتمعنا لقرون طويلة، وأعاقت نهضة الأمة وتقدمها، ومواكبتها لحركة التطور الإنساني، واللحاق بركب الحضارة الحديثة المبنية على العلم والإبداع والمعرفة. لقد تطلّع الى الدولة المدنية في ظلّ نظام ديمقراطي شعبي حقيقي، يسود فيه العدل والحرية وكرامة الانسان !
من هنا وجد فكر أنطون سعاده، وفلسفته الاجتماعية، وعقيدته السياسية والقومية منذ انطلاقتها، صدى كبيراً في اوساط الشعب، لا سيما لدى النخب الفكرية والسياسية، والإعلامية، والاكاديمية، والنقابية، حيث استطاع أن ينشر فكره على مساحة جغرافية واسعة في المشرق العربي، خلال فترة وجيزة بعد تأسيسه للحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1932.
كان أنطون سعاده ظاهرة إنسانية وفكرية، وحركة اجتماعية رائدة، آل على نفسه أن يقاوم ويواجه الظلم والتخلف، والاستغلال. لم يلن ولم يستكن، لم يهادن، ولم يتراجع، لم يناور ولم يساوم على عقيدته ومبادئه. طورد، وأُكره على المنفى، اعتقل وسجن، ولم يتراجع ولم ينحن، فكان يخرج من سجنه في كل مرة مرفوع الرأس، شامخاً، متحدياً، مواجهاً، أكثر عزيمة، وإصراراً وصلابة!
لقد ركّز سعاده على بناء الإنسان المرتبط بأمته، عقيدة، ونهجاً، وسلوكاً، وممارسة وأخلاقاً. مدافعاً عن سيادتها وحريتها. كان يدرك تماماً أنّ حرية الشعوب، واستقلال الأمة ونهضتها لا تتحقق بالأمنيات، وأن كرامة الشعب لا تُصان من قبل المحتلين، والحكام الطغاة. وأن الدولة المستقلة الحقيقية، لن تسمح بها قوى الطغيان والتسلط، وأن تحريرها من الاحتلال الصهيوني لن يتحقق مطلقاً على أيدي الطوابير الخامسة، وخونة الداخل، وعملاء الخارج.
كانت مسيرة الزعيم أنطون سعاده، ظاهرة فريدة لم تشهدها المنطقة المشرقية من قبل. ما جعل عقيدته وأفكاره تنتشران بسرعة في صفوف الشعب لتتشرب عقيدته ومبادئه، حيث تنامت، وتعزّزت روح الثورة والنضال في نفوسها، ما دفع بالطغاة،أن يحيكوا جريمة بشعة دبرت في ليلة ظلماء، بين السلطة اللبنانية، وحسني الزعيم، العميل الذي جاءت به المخابرات الاميركية CIA بعد انقلاب عسكري دبرته عبر عميلها في دمشق مايلز كوبلاند.
قام الطاغية حسني الزعيم بتسليم أنطون سعاده الى السلطات اللبنانية، التي أصدرت الحكم الظالم، الجائر خلال ساعات بإعدامه، دون ان تلتزم بأبسط المعايير الحقوقية، والأعراف، والأصول، والقواعد القانونية والقضائية، والانسانية، لتمكينه من حق الدفاع عن نفسه، او تكليف محامين للمرافعة عنه.
هكذا نفذ حكم “الإعدام” اللاإنساني، واللاأخلاقي يوم الثامن من تموز 1949، الذي أرادته السلطة إعداماً سياسياً، والذي سيبقى وصمة عار لن يمحى عن جبين من كان وراءه.
أراد الطغاة والعملاء، اغتيال الزعيم، ظناً منهم، أنهم يستطيعون أن ينهوا اسمه، وفكره، وعقيدته وحزبه وذكراه، لكن ظنهم خاب.
لقد رحل أنطون سعاده عن هذا العالم، حراً، أبياً، شامخاً، ورحل من بعده الطغاة القتلة. لكن أنطون سعاده، ظل حياً في فكره ونهجه وعقيدته، الراسخة المتجذرة في قلوب الأحرار والمحازبين، الذين يحافظون اليوم على الأمانة، وعلى الحزب الذي أراده الزعيم لهم، ان يكون حزباً نهضوياً وحدوياً، بانياً، مقاوماً، عاملاً على تسطير تاريخ جديد لأمة متحررة، قوية، متوثبة لها مكانها تحت الشمس وبين الأمم.
استشهاد أنطون سعاده، كان درساً وعبرة، وهي ان تحرير الأمة من الاستعمار والحكام الفاسدين، لا يتحقق إلا بالمقاومة والدم والدموع. وأن الاستشهاد في سبيلها، استحقاق يدفعه ابناء الحياة، الجديرون بها.
لقد ترجمت قوافل شهداء الحزب القومي الاجتماعي هذه الحقيقة على الأرض، وفي ميادين القتال. فكانوا جزءاً لا يتجزأ من مقاومة وطنية باسلة، شاملة دفاعاً عن الأمة والأرض والإنسان، في فلسطين ولبنان وسورية والعراق، وهم يواجهون دولة العدوان الإسرائيلية، وفصائل قوى الإرهاب، ومرتزقة قوى الهيمنة التي فتكت في جسم الأمة، ونسيجها الاجتماعي.
إن الوفاء العظيم للزعيم في ذكرى استشهاده، والإخلاص لمبادئه، ونهجه، وتضحياته، يحتم على أبناء حزبه الحفاظ على وحدة الصف والهدف، التي هي فوق كل اعتبار، بخاصة أن الأمة تمر في مرحلة حساسة خطيرة، تواجه فيها شعوبها تهديدات لا تتوقف من جانب العدو الإسرائيلي وحلفائه.
هذا هو صاحب الذكرى، أنطون سعاده… المفكر، والمناضل، والزعيم، والشهيد الذي أرادوا اغتياله، وقتل فكره، وعقيدته، لا زال بعد خمسة سبعين عاماً، نجماً متوهجاً يسطع في سماء هلاله الخصيب، وهو الذي ما كانت حياته ومناقبيته ومواقفه، إلا وقفة عز، وإباء وكبرياء، حتى وهو في اللحظات الأخيرة من إعدامه وإنهاء حياته.
أنطون سعاده! كم كانت ثقتك كبيرة بأمتك، وأبناء حزبك، وبالمناضلين الأحرار الشرفاء، حين قلت كلماتك القليلة الخالدة في لحظة وداعك الأخير قبل استشهادك: “أنا أموت، أما حزبي فباق”.
الشهداء لا يموتون، وحدهم الطغاة، أعداء الحياة، هم الأموات، وما أبناء حزبك الأوفياء لعقيدتك إلا ليجسدوا هذه الحقيقة، وكأني بك، تقول اليوم لقاتليك في يوم استشهادك: أنتم المجرمون، عشاق الذل، ومنبت العمالة والخيانة، مقركم هو الجحيم، أما أنا، فاشهدوا أني سأبقى الزعيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى