الزعيم أنطون سعاده… شهيد فلسطين
أنطون سعاده كان له السبق في تغيير وجه المنطقة عبر تبنّي المقاومة الشعبية والكفاح المسلح طريقاً لتحرير فلسطين، كما حافظ على الهدف الأسمى بكَنْس الاحتلال وتحرير فلسطين كلّ فلسطين من نهرها إلى بحرها
د. طلال ناجي*
*الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وسقوط دولة الخلافة العثمانيّة، رزح الشعب الفلسطيني المظلوم تحت نير الانتداب البريطاني، الذي سيطر على البلاد والعباد وحكم الشعب بالحديد والنار وسامه سوء العذاب، ذبح أبناءه وانتهك حرماته وأذاقه ألوان الظلم والهوان، ومارس عليه كل أنواع البطش والاستبداد. أما الصهاينة فقد أعطاهم بلفور رئيس وزراء بريطانيا وعداً بإقامة وطن قوميّ لليهود، ضمّنه في صك الانتداب، وأطلق يد الصهاينة في فلسطين، فسهّل هجرتهم، وأمّن السلاح لقطعان المستوطنين، فكانوا يسرحون ويمرحون ويخطّطون ويمكرون وأراضي فلسطين يستوطنون. والعربُ كانوا لا حول لهم ولا قوة، قسم سايكس وبيكو بلادهم بين بريطانيا وفرنسا. أما الفلسطينيون فكانوا يبحثون عن بوصلة توجّههم، وزعيم يجمعهم، وقائد يرصّ صفوفهم، وينتصر لهم ويرفع نير الاحتلال البريطاني عن كاهلهم، ويحميهم من العصابات الصهيونية التي ارتكبت المجازر، ودمّرت المنازل وشرّدت السكان.
من هذا المشهد المأساوي خرجت صرخة مدوّية أطلقها شعب فلسطين المظلوم، لامست هذه الصرحة نخوة وشجاعة الزعيم أنطون سعاده الذي لبّى الدعوة الصادقة، فتسلّح بعلمه وأدبه، وحمل معه ذخيرته من كتب الفلسفة والسياسة والثقافة والأدب.
عاد الزعيم الثائر إلى بيروت في العام 1929 ليضع مع ثلة قليلة من رفقائه الذين آمنوا بفكره، اللبنات الأولى في مدماك الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي اكتمل تأسيسه في العام 1932 بعد إصرار ومثابرة منقطعة النظير.
بعد مرور ثلاثة أعوام على التأسيس بدأ الحزب مرحلة الانتشار الواسع، دخل خلالها سعاده سجنه الأول. بعد خروجه من السجن، تابع الزعيم طريقه في ترسيخ مبادئ حزبه، عبر مقارعة الانتداب البريطاني والفرنسي، نصرة لفلسطين، فسجن، وطرد ونُفيَ من وطنه إلى أميركا اللاتينية من جديد.
وأثناء سجنه ونفيه مارس سعاده عمليّة نقد إيجابي لتجربة الثورة الفلسطينية، حاول تفحّص السياقات التي جرت فيها الثورة، عرّى السلبيات وبحث عن أسبابها واقترح العلاج العلمي والعملي لتجاوزها، والتقط ما هو إيجابي، وعمل على تكريسه عبر تعزيزه وتطويره. ومن هنا فإنّ الرؤية النقدية ترتقي بالعمل الوطنيّ وتحصّنه من المؤامرات التي تُحاك، وتحميه من العملاء والخونة الذين يحاولون التسلل عبر الدين والطائفية والحزبية، أو عبر العشائريّة والقبليّة والجهويّة، من خلال سدّ الثغرات التي يحاولون من خلالها التأثير على مواطني سورية.
رفض سعاده كلّ أنواع التمييز بين مواطني سورية الطبيعية على أساس الدين أو العرق: «قاومت الحركة السورية الرامية إلى توحيد صفوف الأمة السورية، جميع السياسات الدينية في الشؤون السورية القومية عملاً بمبدئها الإصلاحيّ الأول القائل بفصل الدين عن الدولة وتأسيس هذه على حقوق أفراد الأمة وواجباتهم بصرف النظر عن مذاهبهم الدينيّة التي يجب أن تبقى من شؤون الفرد الخصوصيّة».
إنّ الممارسة النقدية التي مارسها سعاده ترمي إلى الكشف والتعرية، دون أن تتوسّل تعزية النفس، أو دغدغة العواطف وإرضاءها، بل طال التجربة الفلسطينية برمّتها، عبر تثبيت إنجازاتها والمحافظة على مكتسباتها، عبر إقرار ما أنجز وما تحقق من مكتسبات وإنْ كانت أقلّ بكثير من حجم التضحيات، كما يُقرّ بحصول الكثير من السلبيات، والتي لا مبرّر لوقوعها.
إنّ ما يقف وراء أيّ عملية نقد أو مراجعة، أو رؤية هو محاولة التخلّص من المأزق الذي قادت إليه الثورة الفلسطينية، خاصة وفق السياقات والأشكال التي كانت تمارَس، ومن هنا فإنّ النقد يستهدف المساهمة في التأسيس لعملية التجديد في أساليب النضال الوطني، والتي هي عمليّة مستمرّة ومتواصلة، جيلاً بعد جيل، حتى يتحقّق التحرير، فالصراع العربي ـ الصهيوني كما يراه سعاده ليس صراع حدود، إنما هو صراع وجود، صراع حضاريّ، طويل الأمد بين قوة الحق الذي تمثله القضية الفلسطينية، وحق القوة الذي يمثله الكيان الصهيوني.
ويكرّر سعاده هذا المبدأ الجوهريّ لإيمانه التامّ بالدولة العلمانية، إذ يقول: «لا يمكننا ونحن نبغي الصحيح أن ننظر إلى الدين بمنظار سياسيّ، ولا إلى السياسة بمنظار ديني» (الأعمال الكاملة، ج 11: 65)، كذلك يرفض سعاده مبدأ كره الأجانب على أساس عرقيّ «ليس في حركتنا مبادئ كره للأجنبي، ولا المبدأ المعروف في العالم بالشوفينزم» (الأعمال الكاملة، ج 2: 11). فمن الغباء التكلم أننا نحبّ هذه الدولة أو نكره تلك الدولة، المبدأ القوميّ لا يدور حول الكره أو المحبة، إنما يقوم على مصالح الأمم.
وكما يرفض سعاده أن تقوم العنصرية في بلاده، كذلك ينكرها على غيره: «لولا التشبّث بالعنصرية الفارغة، لما كنا نسمع اليوم بحركة يهودية صهيونية» (الأعمال الكاملة، ج 1: 173). يطالب سعاده بالانسجام ما بين العناصر كافة التي تسكن سورية الطبيعيّة، ويحارب الصهيونيّة لأنها تريد أن تحوّل الدين اليهودي إلى قومية هدفها القضاء على السكان الأصليين: «كلّ هجرة ترمي إلى خلق أمة إلى جانب الأمة السورية، هي خطر تجب محاربته. إننا ضدّ الهجرات التي تنافي الاندماج في جسم الأمة» (الأعمال الكاملة، ج 2: 22، عام 1936).
ومن هناك، ومن جريدة “الزوبعة” واصل الزعيم تقديم أفكاره وآرائه وفلسفته الخاصة، فابتكر أساليب نضال دفع حياته ثمناً لها. وعمل على تحذير القوميين السوريين من مهادنة الانتداب البريطاني أو غضّ النظر عن الخطر الصهيوني.
في العام 1947 عاد أنطون سعاده، وما أن وطأت قدماه أرض الوطن حتى دقّ ناقوس الخطر الصهيوني مجدداً ـ قبل نكبة فلسطين بعام ـ في خطاب العودة في 2 آذار/ مارس 1947: “إنّ جهادنا مستمرّ ويجب أن تذكروا دائماً أنّ فلسطين السورية، هذا الجناح الجنوبي مُهدّد تهديداً خطيراً جداً، إنّ إرادة القوميين الاجتماعيين هي إنقاذ فلسطين من المطامع اليهودية ومشتركاتها. ولعلّكم ستسمعون من سيقول لكم إن في إنقاذ فلسطين حيفاً على لبنان واللبنانيين وأمراً لا دخل للبنانيين فيه. إن إنقاذ فلسطين أمرٌ لبنانيٌ في الصميم كما هو أمرٌ شاميٌ في الصميم كما هو أمرٌ فلسطينيٌ في الصميم… إن الخطر اليهودي على فلسطين هو خطر على سورية كلها، هو خطر على جميع هذه الكيانات».
وبعد تشكيل الحزب اعتبر الزعيم أنطون سعاده أنّ فلسطين والقدس وقفاً مقدساً لا يجوز التنازل عنهما أو التفاوض عليهما أو التفريط بهما، ولا طريق لتحريرهما إلا طريق الجهاد والمقاومة، لذلك أطلق دعماً غير محدود للمقاومة في فلسطين، فكان خيار المقاومة ولم يزل الخيار الوحيد في مواجهة العدو الصهيوني.
أنصتوا جيداً إلى ما قاله أنطون سعاده حول كيفية التعامل مع المطبّعين “إنّ اليد التي تمتدّ لتوقّع الصلح مع اليهود تُقطَع من العنق”. أما وصيّته لرفقائه جيلاً بعد جيل فلسطين: “لا تنسوا فلسطين وإلا ستندمون».
اليوم، وفي هذه الذكرى الأليمة لـ»إعدام» القائد الوطني الكبير والزعيم العظيم أنطون سعاده الذي أطلق المقاومة السياسية والقومية والعسكرية دفاعاً عن فلسطين وفي سبيلها قضى شهيداً. تفتقدُ فلسطين والأمة السورية والعربية (شهيد فلسطين) الذي أرعب الصهاينة حيناً من الدهر، وزرع بذرة (المقاومة) التي سقاها بدمه وعرقه وجهده حتى غدت شجرة باسقة تفيّأ ظلها المناضلون.
لقد تحدّى سعاده بن غوريون في خطاب ألقاه في برج البراجنة في 29 أيار/ مايو 1949 رداً على خطاب لـ بن غوريون في حفل تخريج ضباط صهاينة قال فيه بن غوريون: “سنحقق رؤية أنبياء «إسرائيل»، فالشعب اليهودي بأسره سيعود إلى الاستيطان في أراضي الآباء والأجداد الممتدة من الفرات إلى النيل”. فكان ردّ الزعيم حاسماً بأنّ هذه الدولة الجديدة ستُمحق وتزول. “تقوم اليوم في الجنوب دولة جديدة غريبة كنت أترقّب قيامها وأعلنت أنها ستقوم قبل أن تعلن هي عن نفسها، لأني كنتُ أرى التخاذل السوري سيوجدها حتماً ولكني كما أعلنت قيام تلك الدولة أعلن اليوم محق تلك الدولة عينها. إني أعلن محق تلك الدولة الغريبة ليس بقفزة خياليّة وهميّة، بل بما يعدّه الحزب القومي الاجتماعي من بناء عقديّ وحربيّ يجعل من سورية قوة حربية عظيمة تعرف أنّ انتصار المصالح في صراع الحياة يُقرّر بالقوة بعد أن يُقرّر بالحق. وهذه الدولة الجديدة نشأت في الجنوب بفضل تفسخ مجتمعنا النفسي، وبفضل المنازعة بين حكوماتنا السورية وانقسامنا بعضنا على بعض، بفضل هذه الأمور أكثر كثيراً مما هو بفضل المهارة اليهوديّة الزائفة التي يقف أحد أبطالها اليوم يدَّعي أنها هي، ونحن نعرف ما هي وما هو هزالها، التي أنشات الدولة اليهودية. إنها عملية صراع طويل شاقٍّ عنيف يتطلب كل ذرّة من ذرّات قوانا، لأنّ وراء الدولة اليهودية الجديدة مطامع دول أجنبيّة كبيرة تعمل وتساعد وتبذل المال وتمدّ الدولة الجديدة بالأساطيل والأسلحة لتثبيت وجودها».
لقد انتصر الزعيم لفلسطين، وكان أول من أكد على أنَّ الكيان الصهيوني «غُدة سرطانية» يجب أن تمحق وأن تزول من الوجود. هذا الوصف أرعب الصهاينة، وقضَّ مضاجعهم، فجيّشوا ضد الزعيم وحزبه السوري القومي الاجتماعي، لإخافتهم وليّ ذراعهم، وحملهم على تغيير سياستهم، عبر التخلي عن احتضانهم للشعب الفلسطيني ودعمهم لمقاومته الباسلة، إلا أنه صمد أمام الضغوط القصوى وأصرّ على نصرة فلسطين ودعمها، فاتُخذ القرار من أعلى المستويات بضرورة التخلص من الزعيم سعاده لما يمثله من حضورٍ طاغٍ، فهو القائد الفعليّ للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي دعا إلى الوحدة الوطنية في إطار الدولة السورية، وعرّى أطماع الصهاينة والأوروبيين وأهدافهم الخبيثة بالسيطرة على فلسطين، وعلى المنطقة، فوضع الخطط وقدّم الدعم وأشرف على المجتمع، كما عرّى النظام اللبناني الطائفي الاستبدادي العفن، الذي أعلن تصفيته، لأنه يشكل خطراً وجودياً على النظام الطائفي فهو يدعو صراحة إلى حركة قومية لاطائفية!
لقد شكل أنطون سعاده خطراً داهماً على التحالف الطائفي اللبناني، ارتعبت (حينذاك) السلطات السورية واللبنانية من عودته من اغترابه القسريّ، حاولت منعه، لكنه عاد. وامتلأت الساحات بالقوميين القادمين من الشام ومحافظاته ولبنان ونواحيه. حشود كبيرة خطب فيها سعاده، استقبلت كلماته بالعقول والحناجر، خافت الدولة أكثر، أصدرت مذكرة توقيف بحقه، انتهت بافتعال حادث الجميزة بعد شهور، ومطاردة المعتدى عليهم واعتقالهم. عقول جهنميّة حكمت لبنان ما بعد «الاستقلال». عقدوا صفقة مع حسني الزعيم، وكان من المفترض قتله في طريق العودة إلى بيروت، رفض المكلف بالقتل القيام بالمهمة، وعاد به إلى العاصمة وكانت أبشع عمليّة قتل حصلت قبلها محاكمة صوريّة، بلا محامٍ ثم تصديق على الحكم ليلاً. وعلى عجل، وقع بشارة الخوري ورياض الصلح ومجيد أرسلان على الإعدام. طلب أن يرى عائلته. قالوا لا. اقتادوه إلى ساحة الإعدام. أطلقوا عليه الرصاص، صلّى الكاهن بسرعة عليه، ودفنوه قبل الفجر بقليل.
وهنا لا بدّ لنا من التوقف ملياً أمام مؤامرة تدبير اغتيال زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي في الثامن من تموز 1949، والتي كانت وراءها دولة الاغتصاب وبعض أنظمة الرجعية العربية، مما يدلّ بوضوح على أهميّة دور سعاده وحزبه في فضح ومواجهة الخطة اليهودية ودولتها الجديدة المصطنعة.
لقد خرّج الزعيم سعاده أجيالاً من القادة النبلاء الذين رفعوا راية العزة والكرامة والحرية عالياً، وحملوا على أكتافهم مهمة تحرير فلسطين من رجس الصهاينة، ورفع الحيف عن الشعب الفلسطيني المظلوم باعتبار أنّ فلسطين هي سورية الجنوبية وأنّ القدس هي عاصمتها. فكانوا مثالاً رائعاً وأنموذجاً لجيل الرواد من القادة العظماء الذين أنجبتهم مسيرة القائد التاريخيّة على امتداد العقود الماضية، فضلاً عن الكثير الكثير من القادة المجاهدين الذين ساهموا في بناء وتعزيز محور المقاومة والجهاد، حيث شاركت الكتائب المسلّحة (فرقة الزوبعة) في كل المعارك التي خاضها شعبنا، ولم يبخلوا بالشهداء الذين تركوا بصمات لا تنسى.
خسرت فلسطين والأمة العربية والعالم برحيل الزعيم أنطون سعاده رجلاً من أوفى وأصدق وأكبر وأعظم رجالاتها في العصر الحديث، كان له السبق في تغيير وجه المنطقة عبر تبنّي المقاومة الشعبية والكفاح المسلح طريقاً لتحرير فلسطين. كما حافظ على الهدف الأسمى بكَنْس الاحتلال، وتحرير فلسطين كل فلسطين من نهرها إلى بحرها، وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على كامل الأرض الفلسطينية وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين. لم يعرف الراحل الكبير يوماً معنًى لليأس والتردّد ولم يتراجع أو يتنازل، لم يهادن ولم يساوم.