أنطون سعاده و«المسألة اليهودية»: تفكيك التاريخ أولاً
الزعيم بدأ بتفكيك «عقيدة التاريخ حين شخّص الأركان الثلاثة لـ «المسألة اليهودية» من «عقيدة الاصطفاء» مروراً بـ «عقيدة الوعد» وانتهاء بـ «عقيدة الأرض» وكلها مستمدة من الرواية التاريخية التوراتية، ولو تفككت هذه الرواية يتفكك معها التاريخ ولا يبقى من «المسألة اليهودية» فعلٌ ولا ريح…
توفيق شومان*
*مفكر ومحلل سياسي من لبنان
إذا ما جرى استثناء حملة نابوليون بونابرت على مصر وبلاد الشام بين الأعوام 1798 و1801، وإطلاقه في حمأة هذه الحملة وعداً لليهود بإعادتهم إلى “الأرض الموعودة”، على ما يذهب مؤرّخون وينفي آخرون. فالوعد النابليونيّ إذا ما تمّ الأخذ بوجهة القائلين به، يمكن إدراجه في صدارة قائمة الوعود الغربية التي سعت إلى الإجابة على سؤال انعدام التجانس بين اليهود والمجتمعات المقيمين فيها، عن طريق قوة الفعل والاحتلال، ويكون بذلك “وعد نابليون” قد سبق “وعد بلفور” بأكثر من قرن.
إلى جانب “هذين الوعدين” كان ثمّة اشتغال نظريّ للإجابة على ما بات يُعرف في الغرب بـ “المسألة اليهودية” التي ترافق بروزها مع الحروب الدينيّة في أوروبا خلال القرن السابع عشر، ومن أبرز مَن حاول تقديم إجابات فلسفيّة على هذه الإشكاليّة الفيلسوف اسبينوزا (1632ـ 1677) في “رسالة في اللاهوت” حيث يرى بأنّ الله لم يصطفِ اليهود دون غيرهم، ولم يعقد معهم ميثاقاً أبدياً، وكما كان لهم أنبياؤهم فلغيرهم أنبياء، والميثاق الإلهيّ مع الأتقياء من جميع الأمم “ميثاق معرفة الله وحبّه وفضله، ولما كان هذا الاختيار يتعلق بالفضيلة الحقة، فيجب ألا نظنّ أن الله قد وعد الأتقياء من اليهود وحدهم مع استبعاد الآخرين”.
لا يدع هذا النص وغيره من النصوص المتماثلة في “رسالة في اللاهوت”، مجالاً للشك بأنّ اسبينوزا سعى إلى إزاحة عقيدة التسامي لدى اليهود باعتبارهم شعب “الله المختار” فهم ليسوا “مختارين” كجماعة وليسوا متسامين على غيرهم، وأتقياؤهم متساوون مع أتقياء الآخرين. ومن دون إطالة، فغاية اسبينوزا دارت في فضاء الجهد الآيل إلى إجراء مصالحة بين يهوديّة متجدّدة والعالم الأوروبي، وتندرج في سياق التأسيس لحركة “إصلاح يهوديّ” على غرار حركة “الإصلاح البروتستانتيّ”. فاسبينوزا عاش في مرحلة اشتداد الصراع الديني في أوروبا، وبالتحديد في هولندا المبكرة في انفتاحها على دعوة الإصلاح الكنسيّ، فضلاً عن أنّ اسبينوزا من عائلة يهوديّة، فوالداه هاجرا من البرتغال جراء الاضطهاد الذي كان يُمارس على اليهود في الحقبة تلك.
إنّ غاية اسبينوزا المتمثلة في إعادة قراءة “العهد القديم” على قاعدة اجتهاديّة تُخرج اليهوديّة من عقيدة التعالي، وبما يدفع أتباعها إلى التعايش مع مجتمعات لا تشاركها في الدين، لم تقترب من نقد منظومة العنف والاحتلال والطرد التي قامت على أسُسهم “دولة” اليهود التاريخيّة بحسب رواية التوراة، وهذا الجانب سيكون له عودة حين يأتي الحديث عن الزعيم انطون سعاده.
وبالتوازي تجاوز عالم النفس الشهير سيغموند فرويد (1856 ـ 1939) في “موسى والتوحيد” عقيدة “الشعب المختار” وأفضليّة جماعة بشريّة على غيرها من الجماعات، فذهب إلى تحليل هذه العقيدة من منظور علم النفس الجماعيّ، مُظهراً مجموعة من الأسباب على رأسها الاعتقاد بالتوحيد وإخراج العبادات من العوالم الحسيّة إلى العوالم الروحانيّة. ومما يعني في النهاية أنّ فرويد سعى إلى الشرح والتحليل وابتعد عن التطرق إلى محمول الكراهية الذي تجلبه عقيدة “الاصطفاء والاختيار” تجاه الآخرين. والآخرون هم في الأصل شعب أرض كنعان الذين احتلّ العبرانيّون الغرباء أراضيهم وأخرجوهم من ديارهم تحت سيوف شريعة الاختيار التي أباحت لـ “المُختارين” الاستيلاء على أرض ليست أرضهم، وهي الفكرة المفصليّة التي تناولها سعاده وسيأتي شرحها حين الحديث عنه.
وأما كارل ماركس (1817 ـ 1883) في “حول المسألة اليهودية” فقد نظر إلى اليهودية من منظور تراكمية رأس المال “فاليهوديّة بلغت نقطة الذرورة باكتمال المجتمع البرجوازي، لكن المجتمع البرجوازي لا يكتمل إلا في العالم المسيحيّ. فقد انبثقت المسيحية من اليهودية ثم عادت إليها، لقد كان المسيحيّ منذ البدء هو اليهودي المُنظِّر، واليهوديّ هو المسيحيّ العمليّ، وقد أصبح المسيحي العمليّ يهودياً ثانياً، المسيحية هي الفكرة النبيلة لليهودية، اليهودية هي الاستخدام العادي للمسيحية، ولكن هذا الاستخدام لم يستطع أن يصبح عاماً إلا بعد أن استكملت المسيحيّة كدين ناجز اغتراب الإنسان عن نفسه، عندذاك استطاعت اليهوديّة أن تصل إلى السيطرة العامة، وتبيع الإنسان والطبيعة وتجعلهما قابلين للبيع وموضوعاً لعبودية الحاجة الأنانيّة والتجارة”.
ما الحل لـ “المسألة اليهودية” برأي كارل ماركس؟ بما أن “الجوهر الحقيقيّ لليهودي قد تحقق في المجتمع البرجوازي، وأصبح دنيوياً، لم يستطع المجتمع البرجوزاي إقناع اليهودي بوهم جوهره الديني، وهو الحاجة العملية. وهكذا، حالما ينجح المجتمع في التغلب على الجوهر العملي لليهودي، على التاجر وشروطه، يصبح وجود اليهودي مستحيلاً، إنّ التحرر الاجتماعي لليهودي هو تحرّر المجتمع من اليهودية”.
هذا “الحلّ” الذي يقدّمه ماركس يبتغي قولاً بأنّ المجتمع البرجوازيّ هو المجتمع اليهودي الحديث، والبرجوزاي المعاصر هو امتداد لليهودي القديم التاجر والصيرفي والمُرابي، والمدخل إلى حلّ هذه الإشكالية عبر التحرر من نظام الطبقات، وبصرف النظر عن رؤية ماركس التحليلية لليهودية والمسيحية، وهي محلّ نقد شديد من قبل رجال اللاهوت ومن مفكرين وباحثين كُثُر، فتلك الرؤية اقتصرت على العامل المادي، ولا يمكن تحليل ظاهرة أو حالة أو إشكاليّة بالاستناد إلى عامل واحد وإهمال عوامل أخرى تتضافر وتنتج الحالة أو الظاهرة. وفي الإشكالية اليهودية من الخطأ المستطير نفي الأبعاد الاعتقادية والروحية التي جعلت اليهود يرون في أنفسهم “أمة” فوق الأمم.
القائد الشيوعيّ فلاديمير ألييتش أوليانوف المعروف بـ “لينين” ( 1870 ـ 1924) في مقالات مختارة مجموعة في كتيب بعنوان “نصوص حول المسألة اليهودية” لا يحيد كثيراً عن النسق العام لـ “التصور” الذي تقدّم به كارل ماركس لحل “المسألة اليهودية” عن طريق إزالة البرجوزاية، فالأخيرة روح اليهودية، كما رأى ماركس، وزاد عليها لينين من خلال ردوده على دعوة الماركسيين اليهود لتكوين حزب عماليّ خاص بهم أسوة بالقوميات الأخرى في روسيا، فقال “كلّ من يتبنّى بصورة مباشرة أو غير مباشرة شعار الثقافة القومية المباشرة، عدوّ للبروليتاريا، شريك للحاخامات والبرجوازيين (…) إن النزعة القومية البرجوازية والنزعة الأممية البروليتارية شعاران متعارضان مطلق التعارض”. وعلى ذلك يدخل لينين إلى نقد دعوة “القومية اليهودية” من باب أنها نزعة برجوازية ليخرج من باب حلها عن طريق الإشتراكية الأممية.
ما قدّمه لينين لا يتعدّى كونه حلاً يرهن تحقيقه بالاشتراكية المساواتية وهي (الاشتراكية) رهينة القضاء على الثقافة القومية البرجوازية، ولكن لو جاز استخدام السؤال اللينيني “ما العمل؟” وقد “صمدت” البرجوازية وأقفلت غالبية الدول الاشتراكية أبوابها؟ هل تبقى “المسألة اليهودية” عالقة في مسارها التاريخي الطويل؟ وهو مسار تتعدّد فيه تضاريس وتعرّجات العقل والروح والمادة والسياسة والعقيدة والخرافة، مما لا يجعل “المسألة اليهودية” مستجدّة، وإنما هي غائرة في التاريخ.
ذاك الغور في بطون الماضي هو ما تنبّه إليه الزعيم أنطون سعاده، في شرحه لخطورة مشروع تقسيم فلسطين الذي تقدّمت به “لجنة بيل” الإنكليزيّة في ثلاثينيّات القرن العشرين الماضي، وقضى المشروع بتقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق، واحدة خاضعة للانتداب الإنكليزي، وثانية مخصّصة لدولة يهودية، وثالثة منطقة فلسطينية تتحد مع الأردن، وحيال ذلك كتب سعاده في الرابع عشر من تموز / يوليو1937 فقال :
« كان جنوب سورية مقراً للكنعانيين الذين اتخذوه وطناً وعُرف باسمهم فسُمّي في أحاديث اليهود أرض كنعان، فجاء العبرانيون إلى هذه البقعة عشائر بربرية متبدية وأخذوا يعيثون في الأرض ويخرّبون وينهبون، ومع الوقت استولوا على بعض المدن والأراضي وأنشأوا فيها إمارة خاصة بهم، وأخذوا من الشرائع الكنعانية شريعتهم، ولكنهم ظلوا تجاه أهل البلد الأصليّين وغيرهم من الشعوب غرباء يحتاجون إلى توطيد إقامتهم بالسيف، وظلت هذه حالهم إلى أن ضربتهم الدولة السوريّة ضربة عظيمة وشتتهم الرومان”.
ويضيف سعاده :
“من هذه اللمحة نرى أنّ المسألة اليهودية في العالم ابتدأت منذ مجيء العبرانيّين من البادية إلى جنوب سورية، وواضح أنّ اليهود ليسوا أصليّين في البلاد وأنّ وجودهم في فلسطين لم يجعل لهم صفة خلفاء لأهل البلاد الأصليين، وواضح أنّ بقاءهم في جنوب سورية كان يجب أن ينتهي بذوبانهم في أهل البلاد، فتفشت فيهم اللغة الآراميّة وغلبت عليهم عادات أهل البلاد، وجاءت المسيحية تقول بإلغاء الامتيازات الدينية لليهود وإزالة الخصوصيات اليهودية. نرى إذن أنّ ادّعاءات اليهود في جنوب سورية ليست قائمة على أيّ أساس حقوقيّ، فلا يبقى سوى ادّعائهم وعد الله إياهم بجعل أرض كنعان ميراثاً لهم، وهو عودة إلى النظرة الخصوصية في الدين، ولم يؤيد الله وعده لهم في المسيحية ولا في الإسلام، ولا في أي دين إلهي آخر”.
إنّ هذا التشخيص الذي قدّمه سعاده يهدف إلى تفكيك الأركان الثلاثة لـ “المسألة اليهودية” ابتداء من “عقيدة الاصطفاء” ومروراً بـ “عقيدة الوعد” وانتهاء بـ “عقيدة الأرض”، وهذه كلها مستمدة من الرواية التاريخية التوراتية، ولو تفككت هذه الرواية، يتفكك معها التاريخ، وحين يتفكك التاريخ لا يبقى من “المسألة اليهودية” فعلٌ ولا ريح.
من هناك بدأ الزعيم، بتفكيك “عقيدة التاريخ”.
من يؤرّخ لـ “صحيح” التاريخ وبحيث لا يبقى تاريخ العالم هو تاريخ التوراة؟