خارج الحيّز من يميت نفسه من أجل أمة
أنطون سعاده استثنائي في «عاديّته» أخذ الصفات العادية إلى أقصى الحدود… استثنائيته في إيمانه بأنّ ما يؤمن به حق وخير وجمال للأمة السورية
روني ألفا*
*إعلامي وباحث
نحن في صدد توصيف لعظمة رجل. رجل لا يجهد في إقناع الآخرين بأنه رجل عظيم في حياته. أنطون سعاده من هؤلاء. عظمته في موته أكبر منها في حياته. أنطون سعاده شهيداً أعظم من أنطون سعاده على قيد الحياة لأنه أمات نفسه لتحيا أمته.
أتباع أنطون سعاده يعرّفون عظمته خارج البعد الزمني الضيق. خارج الحيّز الذي يفصل الولادة عن الوفاة. نحن هنا أمام تعريف مجتمعي للخلود لا أمام تعريف ميتافيزيقي ديني. نقول عن أنطون سعاده أنه خالد أيّ على قيد الحياة في تحدٍّ لمرور الوقت. ونعني بهذا أنه سيستمرّ مع مرور الوقت أيّ أننا نستدلّ به في وجود الجماعة بعد وفاة الأفراد.
جانب ثقافيّ من بطولة أنطون سعاده يُقتفى بامتياز. أحرز سعاده ميدالية البطولة الثقافية، إذا صحّ التعبير، من حيث انه مغتصب لقيم مُغتَصَبة هي أيضاً. قتلها سعاده بقيم جديدة هي حقيقية في التاريخ والجغرافيا، ولذلك انتقمت منه الجماعة وأدانته لأنه أقلق راحة ثوابتها. بعد أن أدانته الجماعة، لم يتجنّب أبداً عقوبات هذه الجماعة. على العكس من ذلك. قَبِل عقوبة الجماعة ولم يكلّف محامياً لمساءلتها.
لستُ في صدد إجراء مقارنة، إنما في صدد الكشف عن أداة مشتركة نراها في كل شهادة. السمّ جعل من سقراط رجلاً عظيماً. بيلاطُسْ البُنطي ساهم في عظمة المسيح. الاثنان كما سعاده لم يتهرّبا من حكم وإدانة الجماعة. لو لم يمُت سعاده كما مات لكان رجل سياسة. موته جعل منه أسطورة سياسيّة.
خاصيّة أخرى. الثبات في التمسك بفكرة من سمات زعامة سعاده. كان بإمكان سعاده أن يشتري الفكرة ويبيعها. أن يفاوض على حصة في النظام البالي. أن يتماهى مع السلطة كأداة تنفيذيّة. لم يفعل ذلك بالرغم من العروض المغرية. أن يُستَبدّ بك وتبقى مستبداً في الدفاع عن الفكرة. هذه شجاعةٌ استثنائيّة تكاد تتخطّى النزعة والميل والنزق الإنساني. كان سعاده مستبداً بقناعته وبرسالته ولم يطلب من استبداد المجموعة يومذاك التخلّي عن فرصتها في قتله.
الوقت يستبدّ بالمستبدّ بالنسبة إلى سعاده. وهذا ما يحصل اليوم. ولذلك يبقى سعاده جذاباً لأجيال لم تعرفه، إنما انضوت تحت لواء “الفكرة”. ولذلك أيضاً استطاع سعاده أن يكون فسيح الفكرة القومية وفصيحها، ولذلك أيضاً يُرَدَّد في أدبيات القوميين مع هذه السمة التي أعطت فكره عصريّتها التي لا تبوخ ولا تخبو.
أنطون سعاده استثنائي في “عاديّته”. أخذ الصفات العادية إلى أقصى الحدود. لا توجد في أنطون سعاده صفات استثنائية يفتقر إليها الآخرون. استثنائيته في إيمانه بأن ما يؤمن به حق وخير وجمال للأمة السورية وأعتقد أنّ هذا هو السبب الذي جعل الآخرين يتعرّفون على أنفسهم فيه ويتماثلون معه.
في مأساة غوته، يترجم فاوست بداية إنجيل يوحنا: في البدء كان الكلمة، هذه الترجمة لم ترضه. فجأةً صرخ بإلهام من الروح: في البدء كان العمل. سعاده أحد هؤلاء العمّال. ذهب هِيغل إلى أبعد من ذلك. نغّص على الكلمة الحصول على الشرف. اعتبر الكلمة وجوداً مجرّداً وهَيولى ممكنة وأن تجسيدها بحاجة إلى رجلٍ استثنائي ينقلها من واجب الوجود إلى الوجود المحقق. رجل يستبيح المحظور بالشغف. أنطون سعاده كان ذلك الرجل الشغوف بنقل الفكرة إلى موضع التنفيذ المكاني. أعطاها هوية قومية وأدخلها في الصراع اليومي من أجل التحرر.