أولى

انطون سعاده قدم نظرية متكاملة الحلقات حول طبيعة الصراع العربي ـ الصهيوني

بات جلياً أنّ الصراع العربي – الصهيوني هو صراع وجود لا حدود، يخوضه الطرفان جهاراً ويحشدان له كلّ أسباب القوة، والثابت أن خيمة «إسرائيل» شرعت تتداعى وأن أوتاد الخيمة تهتز بشدة

‬ جوزف القصيفي*‬
*نقيب محرّري الصحافة اللبنانية

إنّ الصراع العربي مع الكيان الصهيوني منذ ما قبل نشأته، أي عندما كان مشروعاً يسوّق له الاستعمار البريطاني متكئاً إلى وعد بلفور الذي تسلّحت به الصهيونيّة العالميّة لإقامة دولتها المزعومة على أرض فلسطين على قاعدة: «شعب بلا أرض، لأرض بلا شعب»، هو صراع وجود قبل أن يكون صراع حدود. بدليل أن الآباء المؤسسين لهذا الكيان حلموا وجاهروا بامتداد «دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل»، وأعلنوا التزامهم العمل على تحقيق هذا الحلم، وخاضوا الحروب على أساس هذه النظريّة في الأعوام 1967 عندما احتلّ «جيش الدفاع» سيناء، الجولان، القدس الشرقية نازعاً السيادة الأردنيّة عنها، والضفة الغربية. وهو ما زال فيها يمارس إجرامه المتعدّد الوجه على الرغم من القرارات الأممية الداعية إلى انسحابه ولا سيما القرار الرقم 242، والقرار 338.
وجاءت حرب «أكتوبر» في العام 1973 التي مُني فيها بأول هزيمة نوعيّة لتحقق له بالسياسة ما عجز عن تحقيقه بالحرب، أي حمل أكبر دولة عربية هي مصر على توقيع سلام منفرد مع «إسرائيل» في كمب ديفيد الأميركية، وكانت هذه الخطوة مدرجة لمزيد من الانقسامات العربية.
واجتاحت «إسرائيل» لبنان على دفعتين: 1978، 1982 لكنها خرجت تجرّ أذيال الخيبة بعدما أجبرتها المقاومة على الانسحاب من المناطق التي كانت تحتلها في الجنوب والبقاع الغربي في الخامس والعشرين من أيار 2000.
ولا تزال «إسرائيل» على نهجها الإلغائي للآخر على كلّ المستويات، فهي ضد الدولة الديموقراطية في فلسطين، وضد حلّ الدولتين، وتعمل بدأب لتهيئة الأرض لـ»ترانسفير» جديد يقضي بترحيل الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية والجليل الأعلى إلى مصر، الأردن، ولبنان. ولا يحتاج الأمر إلى مزيد من الشرح والتفسير، لأنه واضح وضوح الشمس.
من هنا، وبعد التجربة الطويلة ومواكبة المأساة الفلسطينية منذ حصولها في العام 1948، يمكن الاستنتاج بأن السلام مع الكيان الصهيونيّ بات مستحيلاً، وأن الصراع ارتقى إلى مستوى: وجود أو لا وجود. وأن شارة الانطلاق لهذا المنحى بدأت مع «طوفان الأقصى» الذي أسقط مقولة «إسرائيل» التي لا تهزم، وعصا الغرب الغليظة المخوّلة بتأديب كل من يخرج على طاعته من دول وأنظمة. «إسرائيل» هي التي باتت في مسيس الحاجة إلى من يوفر لها الحماية والأمن.
إنّ الصراع العربي – الإسرائيلي تجاوز الإطار السياسي البحت، وبات صراعاً وجودياً بين منطقين: منطق توسعي، إلغائي، رافض لفقه التاريخ وحقائق الجغرافيا ومنطق لا يرضخ لمقولة حق القوة التي تعمل على فرض قوانينها ونظمها وقواعدها على أصحاب الحقوق المشروعة في أرضهم.
وبرزت في حقبة العشرينيّات وصولاً إلى بدايات خمسينيات القرن المنصرم أصوات جريئة لعدد من المتنوّرين من بينهم الكاهن الماروني الأب بولس عبود الغسطاوي اللبنانيّ صاحب المحاضرات الثلاث الشهيرة التي ألقاها في يافا العام 1921 محذراً من إقامة دولة يهودية في فلسطين، وكانت هذه المحاضرات التي ارتكزت على مسوّغات دينيّة وتاريخية واجتماعية مصدر إزعاج للاحتلال البريطاني، فضغط لنقل الكاهن عبود من مقرّ رسالته في فلسطين إلى لبنان.
ومن بين الذين استشرفوا الخطر الذي يمثله الكيان الصهيوني المزروع اصطناعياً في جسد المنطقة، أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي قدّم نظرية متكاملة الحلقات حول طبيعة الصراع العربي -الصهيوني، ووصفه بالصراع الوجوديّ، مبيّناً الطبيعة العنصرية اللافظة للآخر المتأصّلة لدى الكيان الغاصب، والرافضة له أساساً، مشدّداً على استحالة التعايش معه لأنه يُصرّ على فرض إملاءاته وتسيير الشعوب في الدول المحيطة بالدولة التي اغتصبها عنوة بسبب دعم الدول العظمى والغرب عموماً وتراخي العرب وجهلهم ما تبيّت لهم دولة «إسرائيل» الناشئة من مفاجآت، بدليل أنه بمجرد أن استقر هذا الكيان بدأت الهزات تتوالى على الدول العربية التي فتحت على الانقلابات الدموية، والصراعات المحورية، بحيث أصبح عدم الاستقرار فيها من القواعد الثابتة والصفات الملازمة له. أي أنّ الاستقرار كان إلى حدّ بعيد شواذ القاعدة في هذه الدول. وكانت «إسرائيل» بفعل هذا» الشواذ» تستمدّ عناصر استقرارها من اهتزاز الدول المجاورة لها.
لقد بات جلياً أن الصراع العربي – الصهيوني هو صراع وجود لا حدود، يخوضه الطرفان جهاراً ويحشدان له كل أسباب القوة. ولا يمكن التكهّن بمآل هذا الصراع، ولكن الثابت أنّ خيمة «إسرائيل» شرعت تتداعى وأن أوتاد الخيمة تهتز بشدة.
هل هي علامة السقوط الكبير؟ لا يبدو من المنطقي تحديد سقف زمني لذلك، فربما يستغرق الأمر طويلاً. لكن المؤكد أنّ العدّ التنازليّ للكيان الصهيوني بدأ، والتدحرج ليس بطيئاً بل قد يكون أسرع مما يمكن توقعه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى