«المدرسة التي أقفلوها»
أدرك باكراً انّ ما يعيق نهوض الأمة في مواجهة أعدائها ليس قوى الاستعمار التي تحتلّ أقطارها وتُمعن في شعوبها تجزئةً واقتتالاً فحسب، بل هو نظامها السياسي أيضاً الذي كان لقوى الاستعمار اليد الطولى في بنائه على ركائز الطائفية والعشائرية والزبائنية كي تنشغل الأمة في صراع دائم داخل شعوبها وثقافتها
د. عصام نعمان*
*وزير سابق
أنطون سعاده لم يكن زعيماً لحزبه وأنصاره ومريديه فحسب، بل كان رائداً وموجّهاً أيضاً لجمهور عريض من الوطنيين الثائرين على الطائفية والعشائرية وزبائنية الاستعمارَين الفرنسي والبريطاني اللذين احتلّا سورية الطبيعية بكل أقطارها وتقاسماها أكثر من ثلاثين سنة.
وعيُه القومي قاده الى أن يتصرّف في تفكيره وتدبيره كمواطن في أمة عريقة وليس كإبن طائفة او عشيرة تتصارع مع سواها على الوجاهة والمصالح والأسلاب.
بحكم وعيه القومي أدرك سعاده باكراً أن اغتصاب فلسطين لا يشكّل كارثة وخسارة لأهلها فحسب، بل هو أيضاً خطر داهم جارف يتهدّد سائر أقطار الأمة ما يستوجب مشاركة الأخوة الفلسطينيين نضالَهم الموصول ضد الصهيونيّة والاستعمار.
في هذا السياق ، خصّص الكثير من نتاجه الفكري للتبصير بالخطر الصهيوني وبدول الاستعمار التي تمدّه بأسباب القوة على جميع المستويات. كما أدرك باكراً ان ما يعيق نهوض الأمة في مواجهة أعدائها ليس قوى الاستعمار التي تحتلّ أقطارها وتُمعن في شعوبها تجزئةً واقتتالاً فحسب، بل هو نظامها السياسي أيضاً الذي كان لقوى الاستعمار اليد الطولى في بنائه على ركائز الطائفية والعشائرية والزبائنية كي تنشغل الأمة في صراع دائم داخل شعوبها وثقافتها.
من هنا انشغال سعاده الدائم في حوار موصول مع قادة القوى السياسية والشخصيات الوطنية العاملة في الحقل العام، لا سيما أولئك الذين كانوا يشاطرونه الرأي في خطورة الطائفية ومخاطر تعامل أركانها مع القوى الاستعمارية.
في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ سورية الطبيعية تميّز سعاده، فكراً وممارسةً، بموقفين وطنيين عمليين: الأول، دعوة رفاقه في شتى الأقطار ومن ثم تجاوبه معهم في ضرورة مشاركة الأخوة الفلسطينيين نضالهم الموصول ضد الاستعمار البريطاني وربيبته الصهيونية، فقد شاع آنذاك أنه أبلغ كبير القياديين الفلسطينيين الناشطين في الصراع ضد الاستعمار والصهيونية المفتي الشيخ أمين الحسيني، استعداد رفاقه القوميين الى تجنيد عشرة آلاف من شبانهم والتوجّه إلى فلسطين لمقاتلة الصهاينة، ولا ينقصهم سوى السلاح، فحبّذا لو يتدبّر المسؤولون عن إدارة الصراع هذا الأمر كي يتوفّر للقوميين السلاح المطلوب.
الموقف الثاني اللافت أنّ سعاده كان في هذه الأثناء في حوار موصول مع بعض القادة والشخصيات الوطنية في لبنان حول الأسس والخطوات اللازمة للتحرّر من النظام الطائفيّ الذي يشلّ قدرات الدولة الوليدة والشعب التوّاق إلى النهوض والارتقاء، وكان في طليعة هؤلاء النائب الشاب كمال جنبلاط ، وقيل إن تفاهماً مبدئياً قد تمّ بين الرجلين.
لذا كان من الطبيعي بعدما وضع أهل النظام الطائفي يدهم على أنطون سعاده وقاموا بإجراء محاكمة صورية له ثم اغتياله… كان من الطبيعيّ أن يفضح ويشجب كمال جنبلاط جريمة النظام الطائفيّ النكراء بمقالةٍ مدوّية بعنوان: المدرسة التي أقفلوها.
أنطون سعاده كان، وما زال، مدرسةً لن يفلح أهل النظام الطائفيّ الفاسد في إقفالها…