أنطون سعاده… كتبَ صِدقَه بدمائِه
شكّلَ الزعيم منارة علم وثقافة صقلت أجيالاً من الشباب والنساء والكهول وعبَرت الحدود والطبقات والطوائف والمذاهب، وذهب بها سعاده إلى الشهادة فكتب بدمائه عن صدق وعده النبيل، وأدخلَ ميثاقية العز والشرف في التجربة الحزبية والحياة الاجتماعية والعقيدة
نقولا التويني*
*وزير سابق لشؤون مكافحة الفساد
استطاع أنطون سعاده أنّ يُرسي مبدأً فريداً للقومية السورية (التي تجد امتدادها في مبدأ الجبهة العربية ضدّ الاستعمار) ألا وهو أنّ سورية الطبيعية الجغرافية هي المساحة التي يجب أن يتوحّد ضمنها شعب ذو مزيج متجانس من الإتنيات والأديان، تمّ تكوينه وصهره انتروبولوجياً عبْر آلاف السنين في سيرورة الكفاح من أجل البقاء وتشكيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية عبر التاريخ الحضاري لسورية الطبيعية، وأن لا هوية وطنية بدون أرض ولا قومية جامعة إلا عبر صلة الرحم والأرض.
وأنّ وعي النهضة القومية الاجتماعية كفيل بتغليب المصلحة القومية العليا لأمة مكتملة هي سورية، وبأن تغلب المصلحة القومية جميع العصبيات، وأن تنصهر جميعها في الوعي الجماعي والضمير الجماعي للأمة المكتملة، ولم يتوقف عند الخلافات الدينية أو العرقية رغم وعيه العميق لخطر توظيفها من الخارج، لأنّ تجاوز تلك الخلافات محسوم بتحقيق وحدة الحياة.
كان أوّل مَن نبّه إلى الخطر الصهيوني الذي ابتدأ مباشرة بعد قرار الدولة العثمانية بَيعَ الأراضي الأميريّة بالمزادات ابتداء من سنة 1886، عندما تعرّضت فلسطين لغزوة من أصحاب الأموال من محيط فلسطين العربي، وأهمّها البعثة البروتستانتية الألمانية، إضافة الى الوكالات الصهيونيّة التي ابتدأت بإنشاء المزارع النموذجيّة في أرض فلسطين.
من ناحية أخرى أبصرَ الزعيم (وكان صاحب بصيرة مميّزة) أنّ النهضة والثورة التعبيرية متلازمتان بشرط بناء تنظيم يحمل المفاهيم الأخلاقية – الجمالية – الفلسفية النهضوية المشدودة إلى خطة نظامية جدّية، ابتداءً من تثقيف الفرد أو المناضل الحزبيّ وقبوله فقط بعد تمكّنه من فهم الممارسة الحزبية الاجتماعية والسياسية. وأوّل شرط عليه تلبيته هو عزل الأنانيات المناطقية أو الطائفية أو العائلية أو الذاتية عن الحياة الجديدة لما تتميّز به العقيدة الحزبية من تحرّر نهضويّ بإمكانه تذويب التناقضات الطبقية والعرقية والمذهبية وتحويلها إلى جرف أو رافد إيجابي على طريق الوحدة والتحرر.
وكان مثال بوليفار والثوار الأميركيين الجنوبيّين خير دليل في نزول ملّاكي الأراضي الكبار للقتال مع العبيد والثوار الفقراء من أجل التحرّر من النِّير الإسباني وتوحيد أميركا الجنوبية وإنقاذها من التشرذم والتقاسم والفتن.
شكّلَ الزعيم منارة علم وثقافة صقلت أجيالاً من الشباب والنساء والكهول وعبَرت الحدود والطبقات والطوائف والمذاهب، وذهب بها سعاده إلى الشهادة فكتب بدمائه عن صدق وعده النبيل…
وأدخلَ الزعيم ميثاقية العز والشرف في التجربة الحزبية والحياة الاجتماعية والعقيدة، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الدولة الفرنسيّة اعتمدت القَسَم على الشرف في البيانات المعتمَدة للشهود والأفراد أمام المراجع الرسميّة…
التحق بالزعيم عند تأسيس الحزب عددٌ كبير من المفكرين وأساتذة الجامعات والموسيقيّين والشعراء والفنانين والطلاب ورجال المؤسسات الحكوميّة والخاصة وأعداد شعبية من العمال والموظفين.
واقتحم الحزبُ المنابرَ السياسيّة والتجمعات والتظاهرات المطلبية على مساحة بلاد الشام. وكان مركز الحزب الأساسي في حي الجميزة في الرميل تجاه قهوة الزجاج، وكان الأخَوان فضّول تحت إشراف سعاده يديران المطبعة والجريدة اليومية من كنف بيروت بل من قلبها النابض.
وانتقل سعاده، في بناء الدولة – الأمة، بالفكرة القومية في حضن الجغرافيا السورية الطبيعية من مواطنين قطنوها بالوجدان قبل الجسد، مُحَفّزاً لحركتها الخلاقة نخبةً حزبية مثقفة رائدة مستعدّة للتضحية بالنرجسيّة والشخصانيّة في سبيل الكلية القومية الاجتماعية، وإنّ هذه التضحية تنطلق من التوعية والنضال حتى شهادة الدم التي تجسّد العطاء المُطلق، خدمةً لحياة الأمة وارتقائها…