رجل العز…
نقف بكلّ شموخ ونحن نحتفل بذكرى استشهاد رجل عظيم بحجم أمة، مفكّر وفيلسوف ثبت نبوغ أفكاره وخلودها، عمل وأثبت أنّ العقل هو الشرع الأعلى في الإنسان، ووضع مبادئ عقائدية لاستنهاض الأمة قلّ نظيرها.
د. بتول شخيص*
*ناظر الإذاعة في منفذية اللاذقية
جاء شهر تموز الذي نطلّ فيه على المستقبل ونحن أكثر إيماناً ويقيناً بمبادئ النهضة السورية القومية الاجتماعية وتعاليمها التي هي أعظم مدرسة فكرية مناقبية ندر مثيلُها. وجاءت مشاهد البطولة تعيد إلينا صوراً في الروح والذهن ليوم سجّل فيه أنطون سعاده وقفة العز وتجدّد الحياة، وبرهن بكل شجاعة وإيمان كيف يزول العيش في الجسد ويفنى الهيكل وتبقى الروح ويخلد الفكر.
في الثامن من شهر تموز عام 1949 رسم سعاده طريق الخلود النهضوي والفكري والعقائدي وأثبت أننا نموت لنحيا..
قال: “أنا لا يهمّني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت، لا أعدّ السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفّذتها. هذه الليلة سيعدمونني أما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي، كلنا نموت، ولكنّ قليلين منّا مَن يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة، يا خجل هذه الليلة من التاريخ، من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب، بيد أنّ الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد”.
نقف اليوم بكل شموخ ونحن نحتفل بذكرى استشهاد رجل عظيم بحجم أمة، مفكّر وفيلسوف ثبت نبوغ أفكاره وخلودها. عمل وأثبت أن العقل هو الشرع الأعلى في الإنسان، ووضع مبادئ عقائدية لاستنهاض الأمة قلّ نظيرها، وجعلها نمط حياة لمجتمع غايته بعث نهضة تعادل أو تساوي وجودنا.
في مشروعه النهضوي عمل على أكثر الجوانب أهميّة:
أولاً: وحده استطاع اكتشاف الحلقة الوسطى التي أضاعها الآخرون في الكيانية الوطنية والعروبة الشاملة، من خلال تقديم نظرية أمم العالم العربيّ التي أثبتها علمياً وفلسفياً.
ثانياً: وحده استطاع رسم الخط الفاصل بين علمانيّة إلحادية تشبه الغرب وأخرى كمشاريع أنظمة دينيّة تطرح دويلات طائفية، فجاءت علمانيّة سعاده متقاطعة مع الأديان نابذة للطائفية.
ثالثاً: أخرج النقاش الفكريّ للنظام الاقتصاديّ ليقدّم نموذج دولة الرعاية التي لا تستسلم لرأس المال ولا تلغيه، دولة الإنتاج والعقد الاجتماعي المتوازن.
رجل العز خاطبنا قبل أن نولد بعد أن أرسى قواعد الثقافة القوميّة الاجتماعيّة لجعل مجتمعنا مجتمعاً مبنياً على قيم الحق والخير والجمال تزيّنه زوبعة حمراء بأقانيم الحرية والواجب والنظام والقوة. لكي يكون ناهضاً بالحياة قادراً على مواجهة التحديات المتعدّدة. وها نحن.. في يوم استشهادك نجدّد عهدنا الوجدانيّ والمناقبيّ لزعيمنا صاحب النهضة السورية بأننا على العهد باقون مستمرّون في العطاء اللامتناهي لضمان نهضة الأمة السورية.
بهذا الإيمان وبهذه العزيمة الصادقة نذلل الصعوبات وسوف ننتصر مهما طال الوقت.
بهذا الإيمان بفكرك وعقيدتك عاهدناك زعيماً ومعلماً وفادياً ومؤسساً للنهضة.
في هذا اليوم المهيب يجب أن نعيد تلاوة التاريخ، لنبرهن أن أنطون خليل سعاده هو أول من نبّه وحذّر من الخطر اليهودي من أول مقالة نشرها وهو بعمر 17 عاماً بتاريخ 4/6/1921 في الجريدة التي كان يصدرها والده د. خليل سعاده «لم نرى ان هناك نهضة نتفاءل بها، فحتى الآن لم ينشأ سوى بعض أحزاب لخدمة الوطن لم تتجاوز خدمتها إلقاء الخطب وإرسال البرقيات الاجتماعية، مما لا يجدي نفعاً إذا لم يكن هناك أعمال تنفيذية».
ويختم مقالته:
«إن الغيرة على الوطن وحب الوطن لا يكفيان، وليسا البرهان على ذلك، بل البرهان هي الأعمال التي يأتيها كل فرد تجاه وطنه».
وفي 1/10/1921 نشر مقاله الشهير عن الويلات
«إحدى هذه الويلات الآخذة في الحلول في الأراضي السورية كضيف ثقيل يضطر الساكنين إلى الرحيل، هي الصهيونية، فالصهيونية جمعيات وفروع في جميع أقطار المسكونة تعمل يداً واحدة لغاية واحدة، وهي الاستيلاء على فلسطين وطرد سكانها السوريين، ولو كان الصهيونيون وحدهم قائمين بهذا المشروع الخطير لهان الأمر، ولكن يعضدهم في مشروعهم هذا أعظم دولة بحرية وجدت على ظهر البسيطة إلى اليوم».
وأيضا ًحين قال: «إن هناك قوة منظمة تخطط للاستيلاء على فلسطين، ولذا نحتاج إلى بناء قوة أشدّ إيماناً وتنظيماً للوقوف في وجهها».
وجاء الخطاب الفصل في الأول من آذار عام 1949 الذي أشعر الدوائر المعادية بالخطر “إن الصراع بيننا وبين اليهود لا يمكن أن يكون فقط في فلسطين، بل في كلّ مكان حيث يوجد يهود قد باعوا هذا الوطن وهذه الأمّة بفضّة من اليهود… إن لنا في الحرب سياسة واحدة هي سياسة القتال. أما السياسة في السلم فهي أن يسلّم أعداء هذه الأمّة بحقها ونهضتها».
رجل العز دامت ذكراك للحق وللمعرفة وللجهاد..