أولى

غزة تحكم العالم ومشاهد الغد الثلاثة

‭}‬ د. جمال زهران*
منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين 2023م، وما تمخض عنه من بدء حرب التحرير والاستقلال، في مواجهة حرب الإبادة الجماعية التي قام بها الكيان الصهيوني المتوحش، في غزة، والتي أثبتت صمودها الأسطوري، شعباً وقيادة ومقاومة، أن غزة أصبحت تحكم العالم. ولم يفهم الكثيرون كالعادة، ما هو المقصود بهذه العبارة؟! وعلى مدار تسعة أشهر، وقد دخلنا الشهر العاشر، ولا تزال غزة صامدة والمقاومة قادرة على التحدّي، وإنزال الخسائر تلو الأخرى، بجيش الاحتلال الصهيوني، ومرتزقته، والمستوطنين المرتزقة أيضاً، من كل فج عميق. إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه، لما أحدثته وتحدثه غزة بما يحدث فيها، من تداعيات إقليمية ودولية، غير مسبوقة.
فما يحدث في أكبر دولتين استعماريتين، يفوق الخيال، وهما بريطانيا وفرنسا. فصباح يوم الجمعة بعد إعلان نتيجة انتخابات البرلمان البريطاني، وفوز حزب العمال (اليسار) بأغلبية كاسحة تتجاوز الـ (70%)، وهو ما لم يحدث في التاريخ الإنجليزي من قبل، وينهزم حزب المحافظين بعد (15) سنة في الحكم وبصورة صعبة التقبل (حيث حصل على (110) مقاعد فقط!! وهزم رئيس الوزراء الهندوسي (ريتشي سوناك) الذي كان يدعم الكيان الصهيوني، قولاً وفعلاً، وجاء وقت الحساب لينال عقابه، حيث قام الملك البريطاني، بتكليف زعيم حزب العمال بتشكيل الحكومة الجديدة. أما فرنسا، التي كان رئيسها ماكرون، يعلن دعمه للكيان الصهيوني قولاً وفعلاً، فقد حصل تياره في الانتخابات البرلمانية على أدنى النسب بالمقارنة بالأحزاب الأخرى وتحالفاتها، حيث فاز اليمين المتشدد بنسبة أعلى بلغت 34% في الجولة الأولى، والبقية تأتي في الجولة الثانية والمتوقع حتى الآن اكتساحاً لليمين، وهزيمة لماكرون، ولليسار، لتنقلب فرنسا رأساً على عقب من الآن، ولسنوات مقبلة! مثلها مثل بريطانيا، ليشهدا معاً جزاء عملهما وتاريخهما الأسود في السيطرة واستعمار دول العالم. فهل ننسى أن بريطانيا كان اسمها سيدة البحار والإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، حيث كانت تسيطر على غالبية أنحاء العالم، حتى رحلت وزبلت، وأصبحت السيدة العجوز!
وكل هذا يحدث، في أعقاب السابع من أكتوبر وطوفان الأقصى، والمؤكد، ورغم كلّ التصريحات الصادرة من رؤوس اليمين في فرنسا، أو قادة اليسار (العمال) في بريطانيا، المؤيدة والداعمة للكيان الصهيوني، إلا أن هؤلاء القادة سيقرأون الحدث بعين جديدة، وسيضطرون إلى، إما دعم القضية الفلسطينية، والتخلي التاريخي عن دعم الكيان الصهيوني، وإما إلى الحياد، بين الطرفين، وربما في المرحلة الأولى فقط! فالمعروف تاريخياً، انحياز العمال البريطاني للقضية الفلسطينية، مقابل انحياز سافر من حزب المحافظين، ولذلك فإن المتوقع هو انحياز حزب العمال وزعاماته في إطار السياق التاريخي، للقضية الفلسطينية، بغض النظر عن التصريحات الانتخابية، لزعيم حزب العمال (كير ستارمير)، الذي تم تكليفه من الملك، بتشكيل الحكومة.
كما أنّ الانتخابات الأميركية ستشهد سقوطاً مدوياً، لبايدن في نوفمبر المقبل، في مقابل نجاح «ترامب» الجمهوري، وقد ظهر واضحاً، في أول مناظرة بينهما، وسيعاقب بايدن على جرائمه في دعم الكيان الصهيوني والنتن/ياهو، على وجه الخصوص، وسيأتي أسوأ منه، ولكن كانت غزة حاضرة، والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في غزة، والصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية (حماس وأخواتها)، والصمود الأسطوري لجبهات الإسناد في جنوب لبنان وحزب الله، وفي العراق، وفي اليمن، وكل هذا سيكون حاضراً في المشهد، وسيُجبر الجميع على المراجعة الشاملة للمواقف والأفعال، وإلا فالنهاية ستكون أسوأ مما يتصوره أحد.
فالنظام العالمي، دخل مرحلة الأفول، وتجري الآن وبقوة، محاولات إعادة صياغته، بالحضور الروسي والصيني، والانحسار الأميركي/ الأوروبي، فضلاً عن التغيرات المؤكدة في الإقليم، الذي يحاول إعادة ترميم نفسه، خشية السقوط، ولعل التقارب التركي المتسارع، مع سورية، لدفن كل ما سبق من جرائم في حق الشعب السوري، طيلة الـ (13) عاماً من 2011 وحتى وقت قريب، وذلك نتيجة الدعم الروسي الذي يمارس ضغوطه على النظام التركي بزعامة أردوغان، على إعادة هيكلة علاقاته مع سورية، خشية السقوط المدوّي قريباً! ولنتذكر سقوط حزبه في الانتخابات المحلية الأخيرة، كإشارة على موافقة السلبية تجاه القضية الفلسطينية عموماً، وغزة على وجه الخصوص!
وفي تقديري، لو تمّت انتخابات حرة ديمقراطية في الوطن العربي، لسقطت غالبية النظم العربية الحالية، وذهبت إلى الجحيم، بفعل مواقفها السلبية، وإلى حد التواطؤ، تجاه غزة وفلسطين، ولصالح الكيان الصهيوني والانبطاح للأميركان.
أما عن مشاهد الغد الثلاثة، التي تعيشها القضية الفلسطينية وتطورات الأوضاع في غزة، وحرب الإبادة الصهيونية في حق شعبنا العربي في غزة، وذلك بعد تسعة أشهر كاملة، فإنها تتبلور في ما يلي:
المشهد الأول: استمرار حرب محدودة، وهي حرب استنزاف حقيقية للكيان الصهيوني على كل الجبهات (غزة – الضفة الغربية – الجنوب اللبناني – هضبة الجولان – العراق – اليمن – سورية). وقد تأكد تصاعد حجم الخسائر البشرية لدى الكيان الصهيوني عسكرياً خصوصاً، وفي العتاد، وفي المباني إلخ… وفي المقابل صمود أسطوري للمقاومة في هذه الجبهات، التي تولت المبادرة، وتجاوز رد الفعل. والمرجح أن يستمر هذا المشهد لفترة طويلة، كما سبق أن توقعنا منذ بداية الحدث الأسطوري في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
المشهد الثاني: تحوّل مشهد الحرب المحدودة، والاستنزاف الكثيف للكيان الصهيوني، إلى حرب إقليمية واسعة، في ظلّ متغيّرات عديدة، وفي ظلّ التهديدات التي لا تهدأ من الجانب الصهيوني، والأمر يتوقف على تصرف صهيوني متهوّر وفاجر، وستكون العاقبة هي حالة دمار شامل للكيان، وحرب كبرى، تستحيل السيطرة عليها، في ظلّ انشغال أميركي بالانتخابات الرئاسية، وتحوّلات فرنسا وبريطانيا، التي اشرت إليها. وهذا المشهد، يمكن توقعه بدرجة كبيرة، رغم محاولات أميركا وأوروبا، ودول الإقليم الحليفة لها، لثني الكيان الصهيوني عن هذا الخيار.
المشهد الثالث: محاولة إتمام صفقة التبادلات للأسرى ووقف الحرب الصهيونية في غزة، فهي محاولات محفوفة بالمخاطر، ويستحيل إتمامها، وإنْ تمّت فإنها ستتوقف في الطريق، لتسود حالة اللاسلم واللاحرب، حتى معاودة مشهد الاستنزاف الشامل ومشهد الحرب الكبرى، وهي التي لن يستحيل حدوثها ووقوعها بالفعل، وغداً سنرى. وستظلّ غزة تحكم العالم وتحدث فيه ما لا عين رأت أو أذن سمعت!
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة قناة السويس، جمهورية مصر العربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى