الحشد الشعبي أكبر من فصيل عسكري وأبعد من مجرد تيار شعبي…
} محمد صادق الحسيني
ونحن على أعتاب الحسين وبداية الملحمة العاشورائية، نرى من المهمّ الحديث عن حشدنا الشعبي العراقي المقدّس.
قد يكون من المهمّ ان نعطي المرجعية الدينية العليا في العراق حقها ونشير الى فضلها في إطلاق مشروع الحشد الشعبي العراقي في لحظة تاريخية فاصلة من تاريخ العراق لم يكن بالإمكان عبورها إلا من خلال فتوى المرجعية الرشيدة .
لكن ما لا يقلّ عنه أهمية أيضاً بتقديري هو التوقف طويلاً عند المخزون الشعبي الهائل من الذاكرة العراقية المتأجّجة تديّناً ووطنيةً وهمّةً، والتي كانت تبحث عن لحظتها او فرصتها التاريخية لتعبّر عن نفسها بطريقة مختلفة ومتميّزة، فجاءت الفتوى بمثابة الشرارة التي أشعلت حقولاً وليس فقط حقلاً واحداً من الطاقات الكامنة في أجيال من عمر الإنسان العراقي الذي شكل عملياً البيئة الحاضنة التي لولاها ما كان لأيٍّ كان ولا لأيّ تعليمات مهما بلغت في قدسيتها أن تحرّك هذا الطوفان الهادر وباتجاه الأهداف العليا المنشودة بهذه السرعة وبهذا الزخم الذي رأيناه يشتعل على أرض الرافدين الطاهرة والمطهّرة كالنار في الهشيم…
لرسم بعض ملامح صورة ما حصل ومستمر في الحصول في العراق يمكننا الاستعانة بقول إحدى أمهات الشهداء وهي تخاطب أهل الموصل بعد التحرير مباشرة بالقول :
ترسناكم… فرح، والحزن بينا يطوف!
أيّ لقد قدّمنا لكم هذه الفرحة يا أهلنا الموصليّين بكلّ فخر واعتزاز، بفعل عملية التحرير والتطهير التي أنجزها أبناء العراق لكم، لكن ذلك ينبغي ان لا يجعل أحد ينسى او يتناسى بأن ذلك يحصل وحزام الحزن الكبير والواسع الذي يلفّ من حولنا – نحن جمهور الناس – طولاً وعرضاً على امتداد جغرافيا العراق وتاريخه وأعماقه كان حاضراً على امتداد فعل التحرير والتطهير وما بعده…
انها خلطة وعجينة عجيبة وفريدة من نوعها قد تلخص ليس سيكولوجية فلسفة طواف الحزن العراقي فحسب، بل وربما يمكنها أن تشكل فلسفة القهر العام الذي تعيشه جماهير الأمة العربية والاسلامية على امتداد وطننا الإسلامي الكبير وعلى امتداد قرون التاريخ الطويلة…
هي فلسفة هاجر بين الصفا والمروة، هي فلسفة الطواف حول الكعبة، هي فلسفة الطف والطواف حول العقيدة وترجمانها الحي المتمثل بثورة الحسين وأولاد الحسين وأصحاب الحسين وكلّ من سار على نهج الحرية وشعلتها المتقدة عبر الأجيال…
وإلا كيف ينام العراق والأمة معه على ضيم في لحظة غفلة من الزمان بفعل داعش وأخواتها في العام 2014 على خلفية جيش متقهقر ودولة تائهة وعراق حزين، ليستفيق في العام 2017 على حشد يضاهي اكبر جيوش المنطقة ويصبح واحداً من أعمدة النور التي ستغيّر وجه العالمين العربي والإسلامي انْ لم يكن العالم، وليس العراق وحده.
إنه ليس مجرد كمّ من البشر حملوا البنادق وتدرّبوا للدفاع عن وطنهم وخاضوا معارك الدفاع المقدس عن دينهم وعرضهم وأرضهم، وهو ما حصل بالفعل أيضاً.
إنه ليس فقط تضافر جهود المخلصين من أبناء العراق لتعبئة الناس باتجاه القيام بالواجب الديني والقومي والوطني .
إنه ليس فقط انصهار فصائل وكتل وتيارات وأحزاب وقوى وطوائف او مذاهب من أجل الدفاع عن العراق واستعادة أرضه وقيَمه من الخصم المتوحش.
إنه حتى بمعنى من المعاني كما أسلفنا أبعد وأعمق وأكثر تعبيراً من مجرد فتوى دينية خطيرة رغم أهميتها الكبرى ودورها المتميّز.
إنها صيرورة فعل وانفعال وجدان شعب بجمهوره ورجاله الممتازين وتراكم وتبلور عقل قيادة دينية ووطنية تاريخية، أثمرت ما بات يُعرّف عنه اليوم باسم «الحشد الشعبي العراقي».
وعليه فالحشد اليوم ليس جسماً عسكرياً تابعاً للقيادة العسكرية العراقية فحسب، ولا تشكيلاً أو مكوناً مجتمعياً يضمّ ألوية وسرايا وكتائب وفصائل وتيارات شعبية عراقية فحسب،
ولا هو مشروع إعادة صياغة الجسم الوطني العراقي بعد كلّ ما أصابه من كسور ورضوض وأمراض او وعكات او تعثر فحسب.
إنه مشروع إعادة بناء العراق من جديد على أسس ومعايير وفلسفة بناء مشروع مدنية دينية معاصرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
بل قد يكون حتى أوسع وأبعد مدى من ذلك كله، إنه يرقى الى أن يكون مشروع حركة تحرر وطني للعراق كما يمكن له ان يتحوّل مستقبلاً نموذجاً يُحتذى به من سائر بلدان العالم .
تماماً كما لعب مثل هذا الدور مشروع حزب الله لبنان وأنصار الله اليمن وكلّ أشكال التعبئة والنهضة الحديثة في أمصارنا العربية والاسلامية، وإذا ما تجاوزنا الفكر السياسي الضيق، فنقول مثل مشروع الحرس الثوري الإيراني.
إنه عين العراق التي بها يحافظ على وحدته وانسجامه وقوامه الوطني والعقيدي كما هو عين العراق على الأمة، بما يسير في لحظة مصيرية ما كما هي الآن حيث تتبلور وحدة الدم ووحدة الساحات، الأمر الذي بات يشكل الواقع الأقوى الذي يفرض نفسه في ظلّ حراك حثيث دولي باتجاه إعادة صياغة نظام عالمي جديد.
نظام سيكون لنا فيه نحن المسلمين والعرب والعراقيين بشكل خاص دور متميّز وأساسي في العهود المقبلة.
وعليه نستطيع القول إنّ فلسفة الحشد الشعبي استطاعت خلال الأشهر القليلة الماضية ان تسير بسرعة فائقة ما جعل هذا الكيان الوليد يبرز وسط تزاحم الأضداد بمثابة الرقم الصعب الذي سيلعب دوراً مركزياً مهمّاً ليس فقط في إعادة صناعة عراق مختلف ومتميّز يتجاوز فيه عثرات ونكسات ما بعد ثورة العشرين العراقية العظيمة، بل سيرقى قريباً الى مصاف القوى التي ستلعب دوراً في إعادة صياغة المجتمع الدولي الجديد، مجتمع ما بعد سقوط معادلتي سايكس بيكو ومعادلة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.
بعدنا طيّبين قولوا الله…