انتخابات فرنسا ولّدت أزمة سياسية
} حسن حردان
تمثلت مفاجأة الانتخابات الفرنسية في جولتها الثانية، باحتلال الجبهة الشعبية اليسارية الصدارة، وتراجع اليمين المتطرف ممثلا بالتجمع الوطني إلى المرتبة الثالثة، خلف تحالف معاً الذي يرأسه الرئيس إيمانويل ماكرون الذي نجح أيضاً في تعويض بعض خسارته في الجولة الأولى من الانتخابات واحتلّ المرتبة الثانية، لكنه خسر الأغلبية التي كانت تمكنه من الحكم، وبذلك فإنّ فرنسا تجنّبت حكم اليمين المتطرف، وعاقبت ماكرون وحزبه على سياساته الاقتصادية والاجتماعية، والتي أدّت إلى تراجع الاقتصاد وتنامي الدين وانخفاض مستوى معيشة الفرنسيين والحد من مكتسباتهم الاجتماعية…
على أنّ هذه النتائج عكست تحوّلاً في موقف الرأي العام الفرنسي، للأسباب التالية:
السبب الأول، استنفار الفرنسيين في الجولة الثانية، للمشاركة بكثافة في التصويت في الانتخابات مما رفع نسبة المشاركة التي بلغت عتبة الـ 70 بالمئة، بعد أن أحدث تقدّم اليمين المتطرف في الجولة الأولى قلقا لدى غالبية الفرنسيين من ان يتصدّر النتائج ويصعد إلى سدة السلطة..
السبب الثاني، أنّ الفرنسيين أرادوا التخلص من حكم الرئيس ماكرون وسياساته الليبرالية التي أدت إلى الصعوبات التي باتوا يواجهونها لا سيما لناحية ارتفاع الأسعار والضرائب وتدهور مستوى معيشتهم، والتعديلات التي طرأت على قانون العمل، والتي أفقدت الفرنسيين العديد من الضمانات الاجتماعية لمصلحة أرباب العمل…
السبب الثالث، توحد قوى اليسار في جبهة واحدة وطرحها برنامجاً يلبّي مطالب عامة الفرنسيين بالتغيير ويضع حداً للسياسات الليبرالية التي سادت خلال حكم ماكرون، وذلك بالعمل على خفض الأسعار والضرائب وسن التقاعد، الأمر الذي وفر للفرنسيين خياراً بديلاً يجنبهم استمرار حكم ماكرون وسياساته، وفي نفس الوقت تدارك وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم..
السبب الرابع، التكتيك الناجح الذي اعتمدته جبهة قوى اليسار مما مكنها من العودة إلى الواجهة وقطع الطريق على أقصى اليمين بالفوز بالمركز الأول في الانتخابات، حيث نجح اليسار في تحقيق المفاجأة بفعل التكتيكات التي اعتمدها لا سيما لناحية انسحاب مرشحين لصالح اخرين مما حال دون تشتت الأصوات…
السبب الخامس، تصويت الأقليات من أصول عربية وإسلامية وأفريقية بكثافة لصالح جبهة اليسار لتجنّب خطر فوز اليمين المتطرف الذي يطرح برنامجاً ضدّ الهجرة ويهدّد بالنيل من حقوق المهاجرين، وإحداث هزات اقتصادية واجتماعية، ويؤيد «إسرائيل» في حربها على غزة، في حين أنّ اليسار يدعم القضية الفلسطينية وهو ما تجلى في إعلان زعيم اليسار ميلانشون أثر ظهور النتائج الأولية للانتخابات، «علينا الاعتراف بدولة فلسطين»، الأمر الذي يتناقض أيضاً مع سياسات ماكرون الداعمة لـ «إسرائيل»… بينما من المعروف انّ اليسار يرفض العنصرية ضدّ الأقليات المهاجرة..
لكن مع ذلك فإنّ اليسار الذي حاز على 182 مقعداً لا يملك أغلبية نيابية للحكم، وهو لا يؤيد التحالف مع حزب الرئيس الذي حصل على 165 مقعداً، وهو طبعاً من باب أولى يرفض التحالف مع اليمين المتطرف الذي حاز على 145 مقعداً…
من هنا يبدو أن هذه النتائج ستدخل فرنسا في أزمة حكم، حتى ولو كان المخرج تشكيل حكومة تكنوقراط، لأنّ مثل هذه الحكومة تحتاج أيضاً إلى موافقة أغلبية برلمانية، الأمر الذي سيكون عرضة لاشتراطات مرتبطة بانتهاج بعض السياسات التي يطالب بها اليسار، او بالاستمرار بالسياسات التي يطالب بها تحالف معاً الخ… ولذلك طلب الرئيس ماكرون من رئيس الوزراء الحالي غابرييل أتال عدم الاستقالة ومواصلة حكومته تصريف الأعمال ريثما يتوفر الحل، مما دفع قيادات الجبهة الشعبية إلى اتهامه بمحاولة الانقلاب على نتائج الانتخابات والتهرّب من تكليف الجبهة تشكيل الحكومة الجديدة باعتبارها الجهة الفائزة بأعلى الاصوات.. على انّ كلّ المؤشرات تظهر انه لن تطول الفترة التي ستضطر فيها فرنسا للذهاب مجدداً إلى انتخابات جديدة في محاولة للخروج من هذه الأزمة التي أدخلت فرنسا في مرحلة من عدم الاستقرار السياسي مما ينعكس على الشارع، وبالتالي يؤثر سلباً على سياسات حكم ماكرون في دعم أوكرانيا في الحرب ضدّ روسيا، وتأييد حرب الإبادة الصهيونية ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة…