الدور الأميركي ماضياً وحاضراً… الإمكانية والأفق
سامر كركي
حضرت الولايات المتحدة بقوة في الحربين العالميتين الأولى والثانية ورجّحت كفة الحلفاء ورسمت معالم العالم بعد 1945 من خلال إعمار أوروبا وخطة مارشال التنموية والدخول في حرب باردة مع الاتحاد السوفياتي حتى تسيّدت العالم بعد 1991 في زمن العولمة والليبرالية المتوحشة التي لم تبق ولم تذر.
متزعّمة الغرب الإنغلوساكسوني التي لم تقف متفرّجة بعد حوالي أسبوع من انطلاق حرب 1973 وتحديداً في 13 أكتوبر من ذلك العام، حيث بدأت إدارة الرئيس نيكسون بمدّ جسر جوي استراتيجي مع الكيان الإسرائيلي وسمّوه “عشب من النيكل” والذي بدأ بـ 30 طائرة نقل عسكري من طراز (سي 130)، وفي خلال يومين كان الأميركيون قد أرسلوا للإسرائيليين 1000 طن من المساعدات العسكرية يومياً وكان يتمّ تحويلهم من أكثر من عشرين موقعاً مختلفاً في الأراضي الأميركية، في مقابل دول عربية كانت تحاول أن تدعم المجهود الحربي المصري والسوري بطريقتين:
الأولى: دعم مادي عسكري حيث زار الرئيس الجزائري هواري بومدين موسكو في 14 أكتوبر 1973 وطلب دعم المجهود الحربي العربي من خلال استمرار تدفق السلاح، والتقى لذلك الرئيس السوفياتي بريجنيف ولكن ما ظهر أنّ السوفيات كانوا متردّدين خصوصا أنهم لم يتجاوزوا صدمة قرار الرئيس السادات والذي اتخذه قبل الحرب بطرد المستشارين السوفيات، ولكن بومدين قام بشراء أسلحة ومعدات لصالح الجيشين المصري والسوري بـ 200 مليون دولار، وهو ما ذكره الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية المصرية الأسبق أثناء حديثه عن الدعم المالي العربي.
الطريقة الثانية: سلاح النفط كـ “سلاح سياسي” حيث تصدّر المشهد السعودية والجزائر وهما من أبرز المنتجين، وعندما اتخذ قرار حظر النفط عن الغرب كان يتبوأ الأمانة العامة لمنظمة” أوبك” (منظمة البلدان المصدرة للنفط) الجزائري عبد الرحمن خنة وكان الجزائري بلعيد عبد السلام يتبوأ الأمانة العامة لمنظمة “أوابك” (منظمة الأقطار العربية المصدّرة للبترول) وربطاً بما حصل أعلنت الجزائر تخفيض إنتاجها الخام بنسبة 10 بالمئة حيث كانت شركات أميركية كبيرة مثل “موبيل” و”غلف اويل” و”ستاندرد أويل” تشتري الخام الجزائري، وحاولت الولايات المتحدة ردع الجزائر عن طريق منعها من الحصول على تمويل لمشروع الغاز الطبيعي والذي كان جزءاً من صفقة مدتها 25 سنة لتزويد شركة الغاز الأميركي الموجودة في تكساس (إلْباسو ناشورال غاز) بحوالي 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي وحيث انّ مشروع تسييل الغاز بحاجة إلى تمويل كبير يبلغ 340 مليون دولار من بنك التصدير الأميركي ولم يتمّ تنفيذ هذا الإقتراح حيث استمر العرب بالحظر حتى مارس 1974.
أما في 2023-2024 فترى الولايات المتحدة نفسها في صراع مع دول صاعدة ذي حيثية اقتصادية وسياسية بارزة كـ إيران مثلا ومع مجموعات غير نظامية (كالمقاومة اللبنانية بشكل خاص على جبهة لبنان) تقاتل وتحقق توازناً بل قامت بتفوق استراتيجي على الكيان الإسرائيلي بعد أن تخطت مصطلح “توازن الردع”.
صحيح أن الدعم العسكري غير موجود من دول عربية بذاتها للمقاومة الفلسطينية، وصحيح أن لا استخدام لمقدرات الأمة العربية من طاقة وغيرها كسلاح سياسي، لكن الولايات المتحدة تقف مكتوفة الأيدي وفي تراجع استراتيجي نتيجة الثبات الروسي في الحرب مع أوكرانيا، وبرودة تعامل الصين في الحرب الإقتصادية الدائرة بينهما، وتمرّد بعض الدول الإقليمية عليها في “أوبك بلس”، ناهيك عن تكشير الإيراني عن أنيابه في 14 نيسان الماضي وضرب العمق الفلسطيني المحتلّ بشكل خالف التوقعات الإستخبارية والأمنية للأميركيين والإسرائليين.
لذلك تتردّد وتقف الولايات المتحدة عائقاً أمام الحرب الشاملة على الجبهة الشمالية للكيان لعدة اعتبارات:
أولاً: في الدولة العميقة الأميركية واستراتيجياً سيُبقي الأميركيون على دعمهم لهذا الكيان ولكن في المنظور التكتيكي الخلاف واقع وقائم حول جدوى الحرب والقدرة على الحسم والانتصار ناهيك عن محاولة إقناع الأميركي للإسرائيلي أنّ السبيل الدبلوماسي أفضل ففي النهاية الحرب ستؤدّي إلى مفاوضات وإنْ غير مباشرة برعاية أميركية أو أممية.
ثانياً: لا تستطيع الولايات المتحدة كما قال تشارلز براون رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيوش الأميركية: “في حال أي حرب مع لبنان لا نستطيع القيام بما قمنا به في 14 نيسان لإختلاف المدى الجغرافي غير المتوازن في ما يخص وجودنا العسكري (قواعد وغيرها) بين لبنان والكيان.
ثالثاً: خوف الولايات المتحدة على قواعدها العسكرية المنتشرة في الخليج وخاصة المنامة وغيرها من العواصم لأنها لن تكون بعيدة عن الصواريخ التي تنطلق من كل حدب وصوب وتساهم في إرباك التدخلات اللوجستية الداعمة سواء عبر بحر العرب مرورا بالمحيط الهندي وغيرها..
رابعاً: عدم القدرة على ترتيب تحالفات جديدة كتحالف ما يسمّى “الرخاء والسلام” البحر الأحمر لضرب أنصار الله بعدما امتنعت معظم الدول في الغلاف البحري الواحد أو المجاور للانضمام واقتنعوا بالقدرات العملياتية والتكتيكية والإستراتيجية للحوثيين عدا عن أن التجارة الدولية قد تأثرت في المسطح المائي الذي يربط عقدة مواصلات وحتى اتصالات في غاية الأهمية.
خامساً: رغبة الولايات المتحدة إنْ كان في الجناح الديمقراطي على إعادة ترتيب العلاقة مع الدول ذي الحيثية الاقتصادية في الخليج وحتى الجمهوري الذي يريد احتواء ارتدادات العلاقة الفوقية السابقة القائمة على مبدأ (نعطيكم الحماية مقابل التطبيع وعدم فرض أجندات إقتصادية في أوبك بلس)…
سادساً: الدور الإيراني المتنامي اقتصادياً من حيث الثبات وسياسياً والذي تعزز بعد طوفان الأقصى من خلال دعم المقاومات والردّ المزلزل ضدّ “إسرائيل” مباشرة من دون تحرك الحلفاء، وقد وصلت الرسالة للأميركي عن طريق قطر وسلطنة عُمان أنّ إيران ستدخل مباشرة في حال أصبحت الحرب شاملة وهذا يعني تقطيع أوصال المنطقة البحرية تجارياً واقتصادياً من مضيق هرمز مروراً بالمحيط الهندي حتى باب المندب…
سابعا: أيقنت الدولة العميقة داخل الولايات المتحدة أن ما حصل منذ 7 أكتوبر هو تهديد وجودي لن تحلّه إتفاقات إبراهيمية أو تطبيع أو تحشيد الدول حول إيران، ولكنه سيكون في إستمرار نهج تعليب الثورات الملونة وقلب الراي العام والحصارات الإقتصادية وحتى إثارة القلاقل في الدول المحيطة بالكيان والتي تنتظم معه في اتفاقات سلام تبقيها متأرجحة في أوضاع إقتصادية محمومة.
ثامنا: ستبقى هذه المنطقة ( الشرق الأوسط ) منطقة ملتهبة سواء بقي الديمقراطيون أو عاد الجمهوري ترامب إلى الحكم ولكن شكل المعركة سيتعمق تكنولوجيا وتقنيا وسيرتفع لواء حرب الميديا والعقول وحرب الإغتيالات التي ستتسيّد المشهد للأسف…
بناء على ما تقدم، تبقى الدول العربية في سبات عميق …وعلى أمل الوصول إلى أدوار تشبه دور الجزائر تحديدا في 1973، ولكن ما هو ظاهر أن دول لغة الضاد البعيدة عن محور المقاومة ستستمر في التنافس حول آفاق التقدم التقني والرؤى الإبداعية في مجالات الإعلام والفنون والإبهار البصري وغيره .أما قضية فلسطين فلم تعد “بيّاعة”
على أمل!
سامر كركي
إعلامي وكاتب سياسي