انتخابات إيران 2024… الوعد والحلم؟
} يوسف ألبرت صادق
طوت الجمهورية الإسلامية الإيرانية إنتخاباتها الرئاسية التاسعة بعد الثورة الإسلامية في العام 1979 والتي فجرها الإمام الخميني، بحيث حسمت صناديق الاقتراع النتائج بفوز المرشح مسعود بزشكيان المحسوب على التيار الإصلاحي مقابل منافسه المرشح سعيد جليلي، بحيث نال الاول 16,384,303 مليون صوت والثاني 13,538.179 مليون صوت. تبدو هذه النتائج لافتة وتفتح الباب لتساؤلات عدة.
قبل البدء بتشريح النتائج السياسية، لا بدّ من التوقف عند هذا الإنجاز الدستوري الذي تحقق وفاجأ عدداً كبيراً من المحللين السياسيين؛ فكيف تمكّنت إيران من خوض غمار الانتخابات بعد رحيل الرئيس رئيسي وكلّ الضوضاء التي أحاطت بأسباب موته؟ كيف استطاعت هذه الجمهورية، التي يعاديها أقطاب كثر في العالم، أن تدير على مدى أسبوعين انتخابات في كلّ المحافظات؟ يفرض الجواب نفسه: هناك دستور واضح وصريح يفرض اجراء انتخابات عاجلة ضمن مهلة زمنية لا تتعدى الخمسين يوماً. لم تقم السلطات الإيرانية إلا بتطبيق النصوص الدستورية ذات الصلة.
إذا انتقلنا إلى الدلالات السياسية، فيمكننا، بادئ ذي بدء، أن نؤكد على صلابة النظام الذي أظهر تماسكاً لافتاً في ظروف إقليمية بالغة التعقيد. جاءت النتائج مخيّبة لبعض الأطراف التي عوّلت على انفجار الوضع في إيران، بحيث تمّ هذا الاستحقاق الدستوري في جو ديمقراطي، نزيه وهادئ، بعيداً عن التشنجات، وسقطت رهانات هؤلاء، إذ راهنوا مثلاً من بين رهانات مختلفة على ضغوط قد تمارس على الناخبين للاقتراع لمصلحة الدكتور جليلي كونه من التيار المتشدّد، فأفضى تعداد الأصوات إلى فوز الدكتور بزشكيان. وعلى نحو آخر، قال السيد جليلي في رسالة التهنئة إنه يهنّئ السيد بزشكيان حيث حاز على أغلبية الأصوات وشخصياً سأعمل على تقديم الدعم له للعبور من المشاكل. وشدّد أيضاً أنه على الجميع احترام الرئيس المنتخب وتقديم كلّ الدعم له لتحقيق النمو والازدهار في البلاد.
أما بزكشيان، بدوره، فقد صرح عقب انتخابه أنه سيمد يد الصداقة للجميع بعد أن انتهت الانتخابات قائلا إلى الشعب الإيراني العزيز: انتهت الانتخابات، وهذه مجرد بداية لعملنا معا. أمامنا طريق صعب. ولا يمكن أن يكون سلساً إلا بتعاونكم وتعاطفكم وثقتكم، مضيفاً «أمد يدي إليكم وأقسم بشرفي أني لن أتخلى عنكم في هذا الطريق. فلا تتركوني». يدلّ ذلك على الروح الديمقراطية التي ظللت الإنتخابات. ومن علامات الوعي لدى المرشحن وضعهم وحدة لصف الداخلي الإيراني في مقدمة اهتماماتهم.
في ما يتعلق بالأرقام، فإنّ المرشحين حصلا على أرقام مشرّفة، بالرغم من تدني نسبة المشاركة في الإنتخابات، (بحيث لم تتعدّ الـ 50%) خصوصاً سعيد جليلي الذي يُعدّ من الصقور. لذا، لا يمكننا أن نستخفّ بالرقم الذي أحرزه هذا الأخير. فما زال يتمتع بقوة شعبية كبيرة في الشارع الإيراني. وأمام هذه المشهدية التي ارتكزت على لا غالب ساحقاً ولا مهزوم مسحوقاً، يغلب الظنّ أن مسعود بزشكيان سيكون مجبراً على تأليف حكومة تسوية يضمّ إليها وزراء من المحافظين لتسيير أمور البلاد والناس. يؤكد الخبراء الدستوريون أنه في حالات كهذه تغدو حكومة التسوية، حكومة المساكنة، حكومة الوحدة الوطنية أو حكومة الإئتلاف (مهما اختلفت التسميات يبقى معناها واحداً بحيث لا تدلّ إلا على الوحدة في أوضاع سياسية صعبة)، الحلّ الأكثر مرونة لا بل الأمثل للحفاظ على الاستقرار السياسي. وبالتالي يمكنا التاكيد أن الإنتخابات لم تحقق النصر لبزكشيان فحسب، بل أنّ النظام سيستفيد ليحافظ على مكانته في المفاصل السياسية التنفيذية الداخلية، ولو أنّ المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، السيد علي خامنئي، يحتفظ باليد الطولى في السياسة الخارجية وهو المرجع الفيصل.
قالت صناديق الإقتراع كلمتها. لكن إذا دققنا أكثر في الخريطة الإنتخابية لوجدنا نسبة عالية من المقاطعين تتمترس بين الرقمين وهؤلاء هم الناخبون الأساسيون الذين يعلو صوتهم فوق صوت المرشحين. لذلك، من أولى أولويات الرئيس المنتخب أن يلتفت إلى هؤلاء، يستمع لهم ويبدد هواجسهم ومخاوفهم.
في الداخل ترخي تحديات كبيرة متصلة بالوضع الإجتماعي والحريات السياسية، والوضع الإقتصادي بثقله على كاهل الدكتور بزشكيان. وهو كما بات واضحاً فإنه سيمدّ يده للجميع مهما كانت مشاربهم وتوجهاتهم. إلا أنّ المواضيع التي طرحها بزشكيان في موضوع الحريات مثل مسألة فرض قيود على الإنترنت وموضوع فرض الحجاب الإلزامي وما يستتبعه من نتائج على المؤسسات الأمنية والقضائية ذات الصلة. تعدّ تلك المواضيع بحدّ ذاتها خلافية بالأصل بين التيار المحافظ والتيار الإصلاحي الذي يرتكز بقوة على الشباب، لذا سيواجه بزشكيان صعوبة كبيرة في التنقل بين الألغام تلك لأنه ووزير داخليته مثلا يعتقدان بأحقية حلّ نهائي وجذري لتلك الأزمات بينما فريق آخر وازن في البلاد لا يرى الأمور من هذا المنظار. ومن جهة أخرى وعد بزشكيان بالنظر إلى المسائل المتعلقة بحقوق المرأة فيما لا تزال حادثة مقتل الشابة مهسا اميني ماثلة في تداعياتها.
أما في ما يخص الأمور الاقتصادية، فإنّ كرة النار التي تلقفها الرئيس المنتخب محرقة بلا شك. ففي العام 2018، انسحبت الولايات المتحدة الأميركية أحادياً من الاتفاق النووي الذي تمّ توقيعه وإبرامه في العام 2015. ومنذ ذلك الحين، أعادت السلطات الأميركية فرض مجموعة واسعة من العقوبات، الأمر الذي أدّى إلى أن تتعدّى نسبة التضخم في إيران عتبة الـ 52% مسجلة بذلك السقف الأعلى منذ 80 عاما.
يرتبط ملف الإصلاح الاقتصادي بالتطلع إلى السياسة الخارجية واجتراح حلول لمعالجتها بغية جعلها أكثر مرونة، خصوصاً مع الولايات المتحدة الأميركية، وبزشكيان مدرك لهذه المعضلة فهو قرر الإنفتاح على الجميع بمن فيهم الاميركيون. يدرك جيداً مدى خطرهم على الاقتصاد الإيراني إن أكملوا بسياسة العقوبات. بزشكيان ميال أيضاً إلى الإنفتاح الإيجابي والبنّاء على دول الجوار وفي مقدّمتها المملكة العربية السعودية جارة إيران الأهمّ وحاملة لواء مجلس التعاون الخليجي. يفترض ان يعمل الرئيس المنتخب على حلّ المشاكل العالقة مع السعودية، خصوصاً انّ العلاقات الثنائية بين البلدين آيلة إلى التحسّن، والدلالة على ذلك إعادة إحياء التمثيل الدبلوماسي بينهما منذ منتصف العام الفائت من جهة، والحضور السعودي والعربي الملفتين في جنازة الرئيس رئيسي من جهة أخرى.
تبقى المسائل المندرجة تحت عنواني الملف النووي والتجارة الدولية من الملفات الملحة التي تفرض نفسها على السيد بزشكيان، لأنها من العوامل الأساسية التي يمكنها ان تعيد عجلة الإقتصاد الإيراني إلى الدوران وتحقيق النمو.
في المحصلة، قد يفتح وصول المرشح الإصلاحي إلى الحكم مع برنامج واعد الباب على إحداث خرق في اللعبة السياسية الداخلية والخارجية على حدّ سواء. إذ انه مهما قد يكون من تباينات عميقة بين المعسكرين الإصلاحي والتقليدي، فإنّ إيران على المحك وهناك المصلحة الوطنية العليا التي تضغط. لا يسمح الوقت والتحوّلات الإجتماعية والأحداث الدولية المتسارعة لإيران بمزيد من مضيعة للوقت.
يدرك كلا الطرفين حساسية الموقف وخطورته واصبحا ملزمين على التعاون الوطيد على قاعدة التنازلات المشتركة لتبقى إيران. لا يمكن بعد الآن تحييد الشق الاجتماعي وضرورة التغيير عن المعادلة؛ فالشق الاجتماعي هو كفة الميزان وهو الضامن لبقاء أي نظام إنْ تأمّنت رفاهية الناس وحصلوا على المزيد من الحريات. لا يشكك أحد في ضرورة الإبقاء على مكتسبات الثورة إنما يتوجب تطويرها لتلائم مجمل الشعب الإيراني، خصوصاً الفئات العمرية الشابة التي تسعى إلى التطور والحداثة…