آخر الكلام
بين صبحيات الأمس واليوم
الياس عشّي
قال لي أحدهم:
ـ منذ أربعين صيفاً، وربما أكثر، وأنت تستيقظ باكراً، وتجلس على شرفة بيتك، تقرأ، تكتب، وترصد ما يمرّ أمامك من مشاهد. ولو طُلب منك أن تقارن بين صبحيات اليوم وصبحيات الأمس البعيد، فماذا تقول؟
*****
كتبتُ:
بالأمس كنت أرى عمّال النظافة، يكنسون الشارع، ويضعون القمامة في مكانها المناسب. اليوم أرى أسراباً من الرجال والنساء والأطفال يبحثون في الحاويات والسلّات عن بقايا تخلّص منها الناس، يجمعونها ويبيعونها لمن يهمّهم الأمر.
وبالأمس كنت أقضي الساعات الأولى من الصباح مع العصافير، تغنّي لي، وترفرف بأجنحتها لتعلن عن حضورها، وتلتقط بعضاً ممّا تقدّمه لها أغصان الأشجار المتدلّية فوق الأرصفة، أو بعضاً من حبوب القمح أنثرها لها، فتتهافت عليها، وتزدردها، وتشكرني بهزّة من رأسها. اليوم أمضي صبحياتي مع أسراب الكلاب المشرّدة، الباحثة عن طعام، والتي تغطي بنباحها صوتَ العصافير.
وأكثر ما أفتقده اليوم، في صبحياتي، وجوهاً حفظتها على ظهر قلبي، واختفت اليوم من صبحياتي، منها من مات، ومنها من نقل مكان إقامته، ومنها من عاد إلى الريف، وكثيرون هاجروا وتغرّبوا.
بالأمس كان يمرّ من تحت شرفتي أرتالٌ من التلاميذ والتلميذات، يحملون حقائبهم المدرسية، اليوم اختفوا، ووسائل النقل تكفل بإيصالهم إلى مدارسهم.
بالأمس كانت الصبايا يلقين التحية عليك، وتردّ بأحلى منها، اليوم يمررن أمامك مروراً عابراً، بين أيديهنّ عبوة ماء صغيرة، وهاتف محمول، وتحية إنْ أردنها جاءت عبر هواتفهنّ.
بالأمس كانت الدراجات النارية تعدّ على أصابع اليد الواحدة، اليوم صارت هي الأساس في وسائل التنقل، وقد تصاب بالدهشة وأنت ترى عائلة بكاملها على دراجة واحدة!
الشيء الوحيد الذي ما تغيّر بين الأمس واليوم، أنّ الكتاب ما زال بالنسبة لي الصديق الوفي، ينقل أفكاره، ويترك بصماته فيّ، ويترك لي حرية القبول أو الرفض لما يحمله من أفكار.