نيران غزة والانتخابات الأميركيّة وفقه الأولويات!
د. محمد سيد أحمد
جاءت محاولة اغتيال المرشح الرئاسي لانتخابات الرئاسة الأميركية ورئيسها السابق دونالد ترامب، لتتصدّر وسائل الإعلام حول العالم في محاولة من الآلة الإعلامية الغربية الصهيونية الجهنمية الجبارة لشغل الرأي العام العالمي عن النيران المشتعلة في غزة، والتي كلما هدأت قليلاً عبر طاولة المفاوضات يعود رئيس حكومة العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو بإشعالها من جديد، حيث أصبحنا على وعي تام بأنّ ما يقوم به نتنياهو هي حرب شخصية عبثية يخوضها بدون أفق، حيث يدرك أنّ وقف إطلاق النار يعني خسارة الحرب، وسوف يواجه في اليوم التالي مباشرة بعدة اتهامات قد تستدعي محاكمته وبقاءه في السجن حتى وفاته.
وبما أنها ليست المرة الأولى التي أتحدّث فيها عن فقه الأولويات عند تعاملنا مع الأخطار المحدقة بأمتنا العربية ولن تكون الأخيرة بالطبع، فآفة العقل الجمعي العربي هي النسيان، لذلك دائماً ما نحتاج إلى إعادة تذكير هذا العقل الجمعي بأولويات المخاطر التي تحيط بأمتنا العربية حتى لا يفقد بوصلته، ويدخل في معارك جانبية ويترك معركته الحقيقية، ويجب أن نعترف بأنّ عدونا الحقيقي قد تمكّن عبر العقود الخمسة الأخيرة أن يفقدنا بوصلتنا الحقيقية تجاه الأخطار المحدقة بأمتنا العربية، وهو ما زيف وعي الغالبية العظمى من أبناء الشعب العربي، لدرجة جعلت البعض لا يفرق بين العدو والمنافس، بل تمكّن العدو من أن يوهم بعض الحكام بأنّ معركتهم ليست معه بل مع الجيران.
لذلك يجب أن لا تأخذنا الآلة الإعلامية الغربية الصهيونية بعيداً عن غزة ونيرانها المشتعلة، وجرائم حرب الإبادة الجديدة التي ارتكبها بنيامين نتنياهو هذا الأسبوع بمجزرة منطقة المواصي بخان يونس في غرب قطاع غزة وتسببت في استشهاد ما لا يقلّ عن 90 فلسطينياً وإصابة وجرح ما يزيد عن 300 آخرين حسب إحصائيات وزارة الصحة في غزة، وهي جريمة جديدة تحاول وسائل إعلام العدو بالتعتيم عليها بوضع محاولة اغتيال دونالد ترامب في بؤرة التركيز والدلالة لتشتيت الرأي العام العربي والعالمي، لكننا لن نبعد أنظارنا عن النيران المشتعلة في غزة، خاصة أنّ معركة الانتخابات الأميركية هي معركة وهمية يمكن تلخيصها بالاستشهاد بمقولة الرئيس الكوبي الراحل المقاوم الكبير فيدل كاسترو «حين سئل عن الانتخابات الأميركية عام 1960، أيّهما تفضل نيكسون أم كينيدي؟ فأجاب لا يمكن المقارنة بين حذاءين يرتديهما الشخص نفسه. أميركا لا يحكمها إلا حزب واحد هو الحزب الصهيوني وله جناحان: الجناح الجمهوري يمثل القوة الصهيونية المتشدّدة، والجناح الديمقراطي يمثل القوة الناعمة الصهيونية، لا يوجد فرق في الأهداف والاستراتيجيات، أما الوسائل والأدوات فهي تختلف قليلاً، لتمنح كلّ رئيس نوعاً من الخصوصية ومساحة للحركة»، لذلك فوصول دونالد ترامب للمقعد الرئاسي الأميركي أو استمرار جو بايدن لن يقدم أو يؤخر في مصير السياسات الأميركية الفاجرة الثابتة ضدّ أمتنا العربية، لذلك يجب أن نحدّد أولوياتنا وفقاً للتصوّر الذي يفرّق بين العدو والمنافس.
وقبل الدخول في التفاصيل يجب أولاً التأكيد على بعض الحقائق التاريخيّة المتعلقة بالمنافسين والأعداء المحيطين بأمتنا العربية، وأول هذه الحقائق أن تركيا دولة من دول منطقتنا جارة تاريخيّة لها حقوق في جغرافية المنطقة مثل حقوقنا كعرب، وثاني هذه الحقائق تتعلق بإيران وما ينطلق على تركيا ينطبق عليها فهي أيضاً دولة من دول منطقتنا وجارة تاريخية لها حقوق مثل حقوقنا، وثالث الحقائق يتعلق بوضع الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربيّة والقابع على غالبية جغرافية فلسطين وبعض جغرافية الأردن وسورية ولبنان، ولا يزال يطمع في المنطقة الجغرافية الواقعة بين النيل والفرات بالكامل. فهذا الكيان ليست له أيّ حقوق تاريخية في جغرافية المنطقة، ولا يجب أن يكون موجوداً بيننا أو بجوارنا من الأساس.
وفي محاولة قراءة وتوصيف المشهد الراهن في ضوء الحقائق التاريخيّة السابقة يمكننا القول إنّ هناك ثلاثة مشاريع تحاول فرض سيطرتها وهيمنتها على منطقتنا في ظلّ التنافس والصراع الإقليمي، ويأتي المشروع التركي في المقدّمة، وهو يسعى للتمدّد داخل منطقتنا العربية بدوافع مختلفة منها ما هو مشروع مثل الحفاظ على الأمن القومي التركي، ومنها ما هو غير مشروع بمحاولة إعادة دولة الخلافة المزعومة وهو ما يُعدّ احتلالاً صريحاً لمجتمعاتنا العربية، وما تقوم به تركيا من احتلال لبعض الأراضي العراقية والسورية إلى جانب تدخلها في ليبيا خير شاهد وخير دليل، وبالطبع تتعاون تركيا في تنفيذ مشروعها مع بعض القوى الاستعمارية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية السارق والناهب الأكبر لثروات منطقتنا العربية، إلى جانب الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربية.
والمشروع الثاني هو المشروع الإيراني، وهذا المشروع يحاول التمدّد داخل حدود منطقتنا العربية ليس بهدف احتلالها أو سرقة ونهب ثرواتها، ولكن بدافع الحفاظ على الأمن القومي الإيراني، الذي يهدّد بفعل تغلغل وهيمنة بعض القوى الاستعمارية الغربية على بعض مجتمعاتنا العربية المتاخمة بحدودها مع إيران.
وثالث هذه المشاريع هو المشروع الصهيوني الذي يحاول التمدّد للسيطرة على أكبر جزء من منطقتنا العربية بهدف سرقة ونهب ثرواتنا من ناحية واغتصاب تاريخنا من ناحية أخرى، وهو بالطبع مدعوم من بعض القوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية الحليف الاستراتيجي لهذا الكيان الصهيوني، ويحاول على مدار العقود الخمسة الماضية اختراق مجتمعاتنا العربية بكلّ الطرق والوسائل، وتمكّن من توقيع اتفاقيات سلام مزعومة مع بعض الدول العربية بدأت بكامب ديفيد مصر 1978، وأوسلو فلسطين 1993، ووادي عربة الأردن 1994، ثم اتفاقيات تطبيع مؤخراً مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب في غضون الأشهر الخمسة الأخيرة من عام 2020.
وإذا كانت هذه هي حقيقة المشهد الراهن فيجب تحديد موقفنا من هذه المشاريع الثلاثة، ويجب أن نحدّد بدقة أولويات المواجهة مع هذه المشاريع. وهنا يجب التأكيد على أنّ المشروعين التركي والإيراني هي مشاريع منافسة وليست معادية. فالتركي والإيراني جاران ولهما حقوق تاريخيّة في جغرافية المنطقة، وتأتي محاولات التمدّد والهيمنة منهما بهدف الدفاع عن أمنهما القومي وهذا أمر مشروع ويمكن مواجهته في حالة بناء مشروع قومي عربي قويّ يحدّ من هذه الطموحات ويقوم بفرملتها، وأيّ محاولة تتجاوز ذلك يجب ردعها وبقوة، أما المشروع الصهيوني فهو مشروع معادٍ لأمتنا العربية والإسلامية وليس له أي حق في جغرافية المنطقة، وبالتالي تأتي محاولات سيطرته وهيمنته على حساب أرضنا وثرواتنا ومقدرات شعوبنا، ولا بدّ من مواجهته عسكرياً واقتلاعه من فوق الأرض العربيّة المغتصبة، ولعلّ الفرصة سانحة الآن ومع استمرار العدوان الصهيونيّ على غزة، فالوحدة العربيّة والإسلاميّة في اللحظة الراهنة لو تكاتفت وتخندقت مع محور المقاومة لأزالت الكيان الهشّ ومحت وجوده وأعادت مستوطنيه إلى الشتات من جديد، اللهم بلغت اللهم فاشهد…