أولى

القول الفصل وبوصلة التفكير الاستراتيجي قراءة في تصريحات الرئيس الأسد

د. حسن أحمد حسن*

دقائق قليلة كانت كافية لإزالة قدر كبير من اللبس والغموض، ووضع حدّ للإشاعات والأخبار المتداولة بغضّ النظر عن المصادر والأهداف، ودرجة الوعي المطلوبة للتعامل مع تسريبات إعلامية أقلّ ما يُقال فيها: إنها تحتاج إلى تدقيق قبل تداولها وبناء التحليلات والدراسات المطوّلة عنها… دقائق قليلة بحديث مركّز وشفاف منحت المحللين والمهتمين والمتابعين أفقاً واسعاً للكتابة وتصحيح اختلالات البوصلة التحليلية برؤية استراتيجية، وليس هذا فحسب، بل صححت المفاهيم الخاطئة، وبيّنت الفروق التي تجب مراعاتها عند استخدام هذا المصطلح أو ذاك.
نعم إنها دقائق معدودات. تسع دقائق وأربع عشرة ثانية أجاب فيها السيد الرئيس بشار الأسد على الأسئلة المتعلقة بالعلاقات السورية ـــ التركية، وكيف تنظر سورية إلى الموضوع وتتعامل معه بشكل منهجيّ وبعيد عن أي بهلوانية سياسية أو إعلامية، وهذا ما بدا واضحاً في معرض إجابات سيادته على التساؤلات المطروحة من قبل عدد من الإعلاميين في المركز الانتخابي، حيث أدلى السيد الرئيس بصوته في انتخابات أعضاء مجلس الشعب. ومن المهم هنا الإشارة إلى عدد من العناوين الرئيسة والأفكار المهمة التي تضمّنتها أجوبة السيد الرئيس، ومنها:
*لا وجود للقاءات سرّية تحدث عنها الجانب التركي، وكل ما أثير في الأيام الماضية عن لقاءات وتفاهمات يفتقر إلى المصداقية. فالدولة السورية لا تخجل من قرار تتخذه، ولا من سلوك تنفذه، ولا تُخفي عن شعبها مواقفها الرسمية، وهذا ما أشار إليه سيادته بقوله: «(لا يوجد شيء سريّ بالنسبة لنا في سورية، كل شيء معلن، عندما يكون هناك لقاء سنعلنه فلا يوجد أي شيء سري…)، ومثل هذا الموقف العلني والصريح يجب أن يكون حافزاً لدى المهتمّين بالشأن الإعلامي لتوخّي الدقة، وعدم الركون إلى أي أخبار يتمّ تداولها ما لم يتمّ نشرها في الإعلام الرسمي السوري، حيث الحقيقة، ولا شيء غيرها، وكل ما يتمّ ترويجه بصيغة الحقائق التي لا تقبل التشكيك لا يكتسب مصداقيته إلا إذا مهر بخاتم الإعلام الرسمي السوري.
*الدولة السورية إيجابية مع أي مبادرة لتحسين العلاقة مع تركيا، والحديث عن العودة بالعلاقات السورية ــ التركية إلى الوضع الطبيعي يولّد مجموعة من التساؤلات المشروعة والمهمة التي يجب أن تبقى حاضرة على الطاولة بشكل دائم، وأول تلك التساؤلات: (لماذا خرجت العلاقات عن مسارها الطبيعي منذ ثلاثة عشر عاماً؟) وتساؤلات أخرى لا تقلّ أهمية، ومنها: (… هل يمكن أن يكون الاحتلال جزءاً من العلاقات الطبيعيّة بين الدول؟ هل من الممكن أن يكون دعم الإرهاب هو جزء من العلاقات الطبيعيّة بين الدول؟ ــــ هل يمكن أن تسير هذه العلاقة بدون قانون دوليّ؟ بدون الحديث عن الماضي بشكل صريح.. بدون الحديث عن الأخطاء السياسيّة التي أدّت إلى تدمير منطقة كاملة، إلى سقوط مئات الآلاف من القتلى؟.. هل يمكن أن ننطلق باتجاه المستقبل من دون أن نستفيد من دروس الماضي ونضع أسساً كي لا تسقط به وبأفخاخه الأجيال القادمة؟).
*المسألة الأكثر أهميّة في ما يتعلق بالعلاقات مع الجانب التركي ليست في اللقاء بحدّ ذاته بغضّ النظر عن المستوى، بل في مضمون اللقاء الذي لا يعدو أن يكون وسيلة لتحقيق هدف. والوسيلة تحتاج إلى قواعد ومرجعيات كي يكون اعتمادها ناجعاً، وبغير ذلك قد تصبح العلاقات أسوأ، وبالتالي من الطبيعي أن يُسْأَل عن الهدف من أي لقاء على هذا المستوى أو ذاك، وما هي المرجعية المعتمدة؟ وهل هي كفيلة بإزالة الأسباب التي أدّت إلى الوضع الحالي أم لا؟ ولا شك في أنّ إزالة الأسباب كفيلة بعودة العلاقات إلى الحالة الطبيعية. ولذلك كانت سورية كما أوضح السيد الرئيس تقول للأصدقاء المهتمّين بعودة العلاقات السورية ــ التركية: (أزيلوا الأسباب تظهر النتائج).
*الأسباب الفعلية التي أدت بالعلاقات إلى ما هي عليه اليوم تتلخص بأمرين أساسين هما: دعم الإرهاب، والانسحاب من الأراضي السورية، ولا يوجد سبب آخر، ومنطلق عمل سورية يركز على إزالة هذا الواقع الشاذ والوصول إلى نتائج فعليّة، وقد أوضح السيد الرئيس مضامين المشهد الشاذ المطلوب إزالته بقوله: (الاحتلال شاذ، والإرهاب شاذ، وتجاوز القانون الدولي شاذ، عدم احترام سيادة الدول المجاورة وغير المجاورة هو شاذ، عندما تنسحب الأمور الشاذة ستكون العلاقة طبيعية بدون تطبيع وبدون إجراء قسريّ وبدون رأي الحكومات)، وحتى ما يتعلق بأمن الحدود الذي يصبغ أحاديث المسؤولين الأتراك، فطيلة الفترة التي سبقت هذا الوضع الشاذ كانت هادئة ومستقرة، (وسورية دائماً متمسكة بما التزمت به منذ أكثر من ربع قرن بالنسبة لموضوع الأمان على طرفي الحدود ومكافحة الإرهاب).
*المبادرات الخاصة بتصحيح العلاقات السورية التركية ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب، بل منذ خمس سنوات كانت المبادرة الأولى، وعلى امتداد هذه السنوات تكرّر سورية موقفها المستند إلى القانون الدولي، فما تطالب به سورية هو حقّ لها، ولا أحد يستطيع أن يكون عكسه، بغضّ النظر عن المطالبة أحياناً ببعض الإجراءات، لكن وكما قال السيد الرئيس: (الإجراءات شيء وتجاوز المبدأ شيء آخر، لا يمكن أن نتجاوز المبادئ التي نبني عليها مصالحنا الوطنية).
*على الرغم من عدم تقديم أي ضمانات من الأصدقاء الذين يسعون لتحسين العلاقات الثنائية بين سورية وتركيا، إلا أنّ الدولة السورية تسير بشكل إيجابي استناداً إلى رافعتين أساسيتين: الأولى مبادئ واضحة، وهي القانون الدولي والسيادة، والثانية منهجية محددة لضمان الوصول إلى نتائج إيجابيّة، وبغير ذلك قد تكون النتائج سلبيّة، وهو ما أشار إليه السيد الرئيس بالقول: (إنْ لم نحقق نتائج إيجابية ستكون النتائج سلبية.. البعض يقول لن تخسر شيئاً، لا.. في هذه الحالة إما أن نربح وإما أن نخسر، على المستوى المشترك نحن وتركيا والحلفاء، الكل يربح أو الكل يخسر… لا يوجد لدينا تردّد وليس غروراً كما هو حال البعض، لا يوجد لدينا غرور.. نحن نسعى لمصلحتنا بالدرجة الأولى، ومبادئنا تنطلق من مصالحنا المرتبطة بها وليست منفصلة عنها).
*أمر آخر مهمّ أودّ الإشارة إليه في سياق هذه القراءة لما تحدّث به السيد الرئيس، وهو متعلق بضرورة تدقيق المصطلحات واستخدامها بشكل صحيح، فالفرق كبير بين التطبيع والطبيعيّ، لأن التطبيع قسريّ والطبيعيّ عفويّ، وبالتالي التطبيع ضد الطبيعي، ولا يمكن أن يجتمعا. وزيادة في توضيح المضمون والفرق بين المصطلحين قال السيد الرئيس: (… يمكن أن نستخدم مصطلح التطبيع مع عدو شاذ خارج عن منطق الأمور كـ «إسرائيل» كيان صهيونيّ.. فأن نقول نطبّع فهو عملية قسرية لأننا نريد أن نفرض علاقات طبيعيّة هي غير موجودة، أما عندما نتحدث عن بلد جار وعن دولة جارة وهناك علاقات عمرها قرون طويلة فالعلاقات يجب أن تكون طبيعية حصراً، مصطلح التطبيع خطأ…)، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالفرق بين مصطلحَيْ الشروط والمتطلبات، فلضمان تحقيق نتائج سليمة لأمر لا بدّ من تأمين البيئة المناسبة، وهي المتطلبات التي لا يقوم الأمر من دونها. ومتطلبات عودة العلاقات الطبيعية بين سورية وتركيا تفرضها طبيعة العلاقات بين الدول، وهو ما يعبّر عنه بالقانون الدولي. والدولة السورية لا تعلن شروطاً، ولا حتى طلبات وهي اللفظ المخفف للشروط، بل تؤكد على أهمية توفير متطلبات العلاقات الطبيعيّة بين الدول.
*ارتباطاً بالنقطة السابقة من المفيد التذكير بأنّ السيد الرئيس قدّم شرحاً مهماً لمضامين العديد في المصطلحات والعناوين التي تشغل بال الكثيرين في القسم الأول من الأجوبة التي قدّمها على تساؤلات الإعلاميين المتعلقة بانتخابات مجلس الشعب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الفرق بين الآمال والتوقعات والأحلام ـــ المؤسسات لا تبنى على الأشخاص، بل على الأنظمة ـــ الإشكالية الأكبر التي تعترض عمل مجلس الشعب لا تتعلق بالدستور ولا بالقانون بل في النظام الداخلي لمجلس الشعب، فالأنظمة، وكما قال السيد الرئيس: (تسمح للأشخاص المناسبين أن يصعدوا بالمؤسسة وبأدائها، وتمنع الأشخاص غير المناسبين بين معترضتين أن ينحدروا بعمل المؤسسة) ــــ تحسين الإجراءات ليست من مهام مجلس الشعب، بل مراقبة السياسات، وهذا يتطلّب امتلاك رؤية، وتطوير النظام الداخلي تمهيداً لامتلاك مهارة التوقعات، وعندها (نستطيع أن نرى نتائج للتوقعات، عندها تصبح الآمال هي جزء من التوقعات، ونبتعد عن الأحلام). وهناك الكثير من النقاط الأخرى الجديرة بالدراسة وتسليط الضوء عليها، بما يساعد على تنمية مهارات التفكير العلمي الاستراتيجي الصحيح، وكلّ عنوان من هذه العناوين يستحقّ تقديم دراسات تحليلية تعود بالفائدة على إعادة تكوين الرأي العام وتوجيهه وفق بوصلة وطنية لا يمكن أن يكون مؤشرها إلا مضبوطاً وفق المصالح الوطنيّة العليا، وبما يعزز الأمن الوطني ويزيده منعة وقدرة على مواجهة مختلف أنواع المخاطر والتهديدات والتحديات.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك
والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى