اللعبة السياسية في واشنطن وتل أبيب والحرب
ناصر قنديل
– في المقارنات الدائمة التي يُجريها الباحثون والمتابعون لحال المواجهة بين محور المقاومة والثنائي الأميركي الإسرائيلي، لا يمكن تجاهل نقطة محورية يزداد حضورها في زمن الأزمات والانتخابات، وهي موقع اللعبة السياسية الداخلية في كل من أميركا وكيان الاحتلال، في التأثير على صناعة القرارات الاستراتيجية المتصلة بالحرب، ومدى صحة الكلام عن تحكم ما يُسمّى بالدولة العميقة في تأمين الانتظام في أداء المؤسسات وفق ما يُسمّى بالمصالح العليا ومفهوم الأمن القومي بعيداً عن التأثر بالمناورات والألاعيب السياسية وعمليات تحشيد الناخبين والسعي لكسب الأصوات التي تفرضها مراحل الانتخابات ومحاكاة المزاج الشعبي في زمن الأزمات.
– تبدو هذه الحرب الاختبار الأشدّ صعوبة على صعيدين، الأول قدرة صنّاع القرار السياسي على إدارة الظهر للمعادلات السياسية في الشارع واتجاهات الرأي العام، وهو ما يزداد حضوراً في زمن الأزمات والانتخابات، والثاني قدرة الدولة العميقة على فرض إرادتها على أصحاب حق التوقيع الذين يتبوأون المناصب التي تملك القدرة على إصدار القرارات، ونحن نشهد معركة انتخابية غير مسبوقة في أميركا تضع على المحك مستقبل كل من الحزبين المتنافسين، ومن خلفهما شرائح وبنى اقتصادية وشبكات مصالح يصعب تجاهل تطلعها للفوز في المعركة الانتخابية التي تنظر إليها بعين وجودية. وهذا معنى الحديث عن الحرب الأهلية، وتضغط على ممثلها في هذه المعركة لضبط الأداء بما يوفر أفضل الفرص للفوز، وبالتوازي في كيان الاحتلال يضغط تغيير اتجاهات الرأي العام نحو الخروج من الحرب، على اللاعبين السياسيين ويسبب الذعر لبنيامين نتنياهو من خطر خسارة الأغلبية في الكنيست فيهدد بالحرب الأهلية بذريعة التحذير.
– بالمقابل، يبدو مَن يُفترض أنهم رموز الدولة العميقة في المؤسسات العسكرية والأمنية في واشنطن وتل أبيب أعجز من أن يتفقوا على تشخيص موحّد للمصلحة العليا ومفهوم الأمن القومي، حيث يعتقد قادة كبار في المؤسسة الأميركية أن التماهي مع موقف نتنياهو يتسبب بخسائر يصعب تعويضها من وجهة نظر المصالح الأميركية، وأن قيادة أميركية عاقلة هي تلك التي تضبط إيقاع موقفها مع مقتضيات حشد دولي عربي لوقف الحرب وفتح الطريق لتسوية القضية الفلسطينية وفق معادلات قابلة للحياة يرفضها حكام كيان الاحتلال، وبيد القيادة الأميركية إن أرادت ربط المساعدات العسكرية والمالية بقبول هذه السياسة الأميركية؛ بينما يرى قادة آخرون في هذه المؤسسات العسكرية والأمنية أن إضعاف صورة «اسرائيل» القوية سوف يدفع بقوى المقاومة لمزيد من التجرؤ على النفوذ الأميركي وعلى «إسرائيل» نفسها أكثر، وأن الصراع في المنطقة سوف يتدحرج نحو خسائر متلاحقة أميركية وإسرائيلية حتى الخسارة الكاملة، وأن كلفة الوقوف وراء الحرب الإسرائيلية تبقى أقل من كلفة إظهار روح التسوية والتراجع.
– في كيان الاحتلال ترتبك أيضاً المؤسسة الأمنية والعسكرية، بين ثلاثة اتجاهات، اتجاه يقول بأن المضي بالضغط على الجيش لمواصلة الحرب يعني تسريع وقوع هزيمة لا يمكن ترميم الأوضاع بعدها، بينما قبول نسبة من الهزيمة طوعاً يبقي المجال مفتوحاً أمام خطة نهوض لاحقة، واتجاه ثانٍ يقول إن القبول بشروط المقاومة لوقف الحرب هو السقف الذي سيجد الكيان نفسه يقف تحته في أي استعداد لوضع الأولوية لوقف الحرب، وهذا السقف سيشمل سقفاً مشابهاً في جبهة الشمال، وسرعان ما سوف تتدحرج الأمور نحو فتح مسارات تسويات عنوانها تخفيف القبضة الإسرائيلية في الضفة الغربية لصالح السلطة الفلسطينية تستثمرها قوى المقاومة فتجد «إسرائيل» نفسها أمام غزة جديدة في الضفة؛ وهذه بداية النهاية. بينما التأقلم مع حرب استنزاف تكبر وتصغر دون حلول كبرى، مع هدنات متقطعة، تبقى أقل كلفة من السقوط المدوّي الذي يحمله القبول بأولوية وقف الحرب. أما الاتجاه الثالث فهو الذي يمثله قادة المؤسسات العسكرية والأمنية الذين يتصرفون بخلفية السعي لتفادي المساءلة عما حدث في 7 أكتوبر وما بعده في حرب غزة. وهذا يضعهم في حال ارتباك محورها ترحيل المسؤوليات على المستوى السياسي وتحمل تبعات قراراته.
– في الحصيلة يمكن استخلاص الغياب الكامل للرؤية الاستراتيجية التي تحكم الانخراط الأميركي الإسرائيلي في الحرب والمفاوضات، وغياب القوى القادرة على توحيد الجسم السياسي والعسكري في واشنطن وتل أبيب تحت ظلال هذه الرؤية. وهذا ما يفسر حال التقلب والتردد والتشوش من جهة، ويفسر حال المياومة دون خطة من جهة مقابلة، لكن العكس يجري على مستوى محور المقاومة، حيث العلاقة بين القيادات الصانعة للقرار، فيما بينها من جهة وبينها وبين جمهورها من جهة موازية، لا تحكمه حسابات سلطوية ومكاسب فئوية، بل رؤية واضحة للحرب ودورها ومقتضيات خوضها والفوز بها، وثقة مطلقة بالمكانة الحاسمة في قرار الحرب والتفاوض للمقاومة في غزة، ومنحها التفويض المفتوح لاتخاذ القرار بالنيابة عن محور المقاومة كله، ووضع تضحيات وإمكانات ومقدرات المحور دولاً وحركات مقاومة تحت تصرفها.
– نحن أمام مفارقة توازن قوى ناري محكوم بضفتين، واحدة تديرها معايير الوفاء والإخلاص والأخلاق وحسابات المبادئ والقضايا، وثانية تديرها المؤامرات والدسائس وحسابات المناصب والمكاسب، ولذلك يمكن فهم سر رجحان كفة النصر لجبهة الفضيلة والحق والصبر.