الدولة الفلسطينية ستقوم رغم أنف «الكنيست الإسرائيلي»
د. إبراهيم العرب
في السابع عشر من تموز الحالي، وفي خضم الاحتفال باليوم العالمي للعدالة الدولية، أصرّ «الكنيست الإسرائيلي» على ترك بصماته القاسية على هذا اليوم بإقرار قرار يرفض إقامة دولة فلسطينية؛ ولم يكن هذا القرار وليد الصدفة، وإنما جاء ليعكس النوايا الحقيقية لـ «إسرائيل» تجاه حقوق الشعب الفلسطيني. ولكن هل يمكن لقرار كهذا أن ينسف حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة؟
بادئ ذي بدء، منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في 1948، لم تتوقف «إسرائيل» عن محاولات ترسيخ وجودها من خلال الاستيطان والضمّ والتدمير المنهجي لكلّ مقومات الدولة الفلسطينية؛ وفي هذا السياق، جاء قرار الكنيست الأخير كجزء من استراتيجية «إسرائيلية» واضحة تهدف إلى تقويض حلّ الدولتين وإدامة الصراع، لا سيما أنّ القرار الذي تمّ تمريره بأغلبية ساحقة في ظلّ معارضة تسعة نواب عرب فقط، ما يعكس تحالفاً شاملاً بين مختلف الأطياف السياسية في «إسرائيل»، بما في ذلك الائتلاف الحاكم والمعارضة.
وبذلك، يكون قرار الكنيست الأخير ليس مجرد موقف سياسي، بل هو تعبير عن سياسة إقصائية واستعمارية تتجاوز كلّ الحدود القانونية والأخلاقية؛ خصوصاً أنه جاء بعد مصادقة الكنيست في شباط الماضي على معارضة نتنياهو إقامة دولة فلسطينية، وبعد تصريح سموتريتش العلني برغبة «إسرائيل» بضم الضفة الغربية إليها، علاوة على التصعيد الميداني الذي شهدته الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة مؤخراً، وزيادة حملات العنف والاعتداءات «الإسرائيلية» على الفلسطينيين، بما في ذلك مصادرة أراضيهم وبناء المستوطنات وهدم منازلهم دون وجه حق؛ فضلاً عن أنّ التهجير القسري للفلسطينيين أصبح ممارسة يومية تهدف إلى خلق وقائع جديدة على الأرض، تجعل من إقامة الدولة الفلسطينية أمراً شبه مستحيل.
ولذلك، نرى بأنّ «إسرائيل» تعمل على الأرض منذ سنوات عديدة، بشكل مكثف لتنفيذ مخططاتها الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس الشرقية؛ فخلال العام الحالي فقط، استولت «إسرائيل» على 40 ألف دونم من أراضي الفلسطينيين، وأقامت 20 بؤرة استيطانية جديدة، في أكبر عملية استيلاء منذ عقود. كما صعّدت من عمليات الهدم والتهجير القسري للفلسطينيين، مما يهدّد بنسف أيّ أمل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة.
إضافة إلى ذلك، فإنّ سياسات «إسرائيل» الاستيطانية لا تتوقف عند حدّ مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، بل تتجاوزها إلى محاولات تهويد القدس بشكل كامل، بما في ذلك الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى، والتي أصبحت حدثاً يومياً يهدف إلى تغيير الهوية الدينية والتاريخية للمدينة المقدسة؛ أي أنّ هذه السياسات المتعمّدة تسعى إلى فرض أمر واقع يجعل من أي حديث عن حلّ الدولتين مجرد وهم، وأي قرار محتمل بالاعتراف بالعضوية الكاملة للدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، مجرد حبر على ورق.
من جهتنا، فإننا نرى بأنه رغم كلّ هذه التحديات والظلم اللاحق بأهالينا الفلسطينيين، لا يزال شعب الجبارين صامداً على أرضه، ومتمسكاً بحقه في إقامة دولته المستقلة؛ وقد أثبتت المقاومة الفلسطينية، سواء في غزة أو الضفة الغربية، قدرتها على إجهاض المخططات الإسرائيلية وإبقاء القضية الفلسطينية حيّة في وجدان العالم.
كما أن المجتمعين العربي والدولي بدورهما لم يبقيا صامتين، فقد أدان البرلمان العربي، والمنظمات الدولية، قرار الكنيست بشدة، معتبرين إياه انتهاكاً صريحاً للقرارات الدولية ومحاولة لشرعنة الاحتلال والفصل العنصري. كما دعت هذه المنظمات الأممية الدول التي لم تعترف بعد بالدولة الفلسطينية إلى القيام بذلك ودعم حصولها على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. وفي هذا السياق، يُطلب من الدول العربية، وخاصة المطبّعة مع «إسرائيل»، اتخاذ مواقف أكثر صرامة ودعماً للقضية الفلسطينية، كتعليق العلاقات مع «إسرائيل» وسحب السفراء، ما يمكن أن يكون خطوة أولى نحو الضغط على الاحتلال للالتزام بالقرارات الدولية والاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة؛ ذلك أنّ سياسات التطبيع مع «إسرائيل» التي اتبعتها بعض الدول العربية في السنوات الأخيرة جاءت كضربة موجعة للقضية الفلسطينية، لأنها تجاهلت الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وساهمت في تشجيع «إسرائيل» على الاستمرار في سياساتها القمعية والاستيطانية.
أما اليوم، وفي ضوء التصعيد الإسرائيلي الخطير، أصبح من الضروري إعادة النظر في هذه السياسات والعمل على بناء موقف عربي موحّد يدعم حقوق الفلسطينيين ويضغط على «إسرائيل» لإنهاء احتلالها والاعتراف بالدولة الفلسطينية. كما ندعو قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى سحب اعترافها بـ «إسرائيل»، وذلك رداً على قرار الكنيست الإجرامي بعدم الاعتراف بدولة فلسطينية، ولمواجهة تصاعد المجازر الدموية التي يقوم بها الاحتلال في قطاع غزة، وعملية التدمير المنظم لكلّ مقوّمات الحياة الإنسانية الفلسطينية.
إنّ الدولة الفلسطينية، وحق عودة اللاجئين، واستعادة المقدسات الإسلامية والمسيحية المحتلة، ليست مجرد شعارات أو أحلام، بل هي حقوق مشروعة لشعب فلسطيني معترف به من قبل 150 دولة حول العالم، رغم التآمر الأميركي عليه والعراقيل التي تضعها «إسرائيل»؛ آملين بأن ينتزع حقه بقوّة إصرار الفلسطينيين وصمودهم، مدعوماً بمؤازرة الدول المحبة للسلام، ما يجعل من إقامة الدولة الفلسطينية أمراً حتمياً لا محالة.
باختصار، إنّ اعتراف الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية يعكس إرادة دولية قوية في تحقيق العدالة والسلام في المنطقة. وهذا الاعتراف الدَّوْليّ، بالإضافة إلى الدعم المستمر من المنظمات الدولية والإقليمية، يشكل دعماً قوياً للشعب الفلسطيني في نضاله من أجل حقوقه المشروعة. ولذلك، فإنّ الدولة الفلسطينية ستقوم رغم أنف الكنيست الإسرائيلي، وستظلّ القدس عاصمة أبدية لهذا الحق الذي لن يموت.
خاتمين بالقول، إن قرار الكنيست الإسرائيلي برفض إقامة الدولة الفلسطينية هو محاولة يائسة لإعطاء بارقة أمل لجيش إسرائيلي كُسرت شوكته وفقد هيبته، وعرف العالم أجمع حقيقة وجهه القبيح المعادي للسلام والإنسانية، وقذارة جنوده بعد إدخال دولتهم على لائحة العار وقتلة الأطفال الأبرياء.
وبالتالي، فإن كل محاولاتهم البائسة لتغيير صورتهم كأحقر شعب في العالم، لن تنجح في محو جرائمهم المفجعة بحق الفلسطينيين أو منعهم من تقرير مصيرهم بأنفسهم وتحرير أراضيهم. وفي النهاية، إن الدولة الفلسطينية ستقوم رغم أنفوكم أيها الإسرائيليون المجرمون، يا أعداء السلام، وستظلّ القدس عاصمة أبدية للوطن الفلسطيني الذي لن يموت، لا سيما أنّ الصمود الفلسطيني، سيظلّ مدعوماً بالتضامن الإسلامي والعربي، وسيبقى القوة الدافعة نحو تحقيق العدالة والحرية لشعب العزة والكرامة، شعب الجبارين.