العدو بين يمن النصر وهزيمة العصر
يوسف صادق*
فعلها اليمن… قصفت القوات اليمنية عمق الكيان المعادي، عبر إطلاق مُسيّرة من نوع صامد أطلق عليها الفلسطينيون إسم «يافا» كما قال السيد عبد الملك الحوثي، وقد أصابت مبنى سكنياً في يافا (تل أبيب)، موقعة عدداً من القتلى والجرحى ومحدثة موجة ارتدادية من الذعر والدهشة والاستنكار السياسي في الكيان، خصوصاً أنّ الرادارات المعنية في الجيش الإسرائيلي لم تستطع كشفها، الأمر الذي أحدث إرباكا في الجيش، مما اضطره لفتح تحقيق لمعرفة الملابسات وتفادي حوادث مماثلة في المستقبل.
إنها حرب ضروس بين المحور المساند للمقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني الذي يتحمّل ما يتحمّله جراء العدوان المستمرّ عليه بشكل همجي مزمن واشتدّ أواره منذ السابع من تشرين الأول من العام الماضي. من الطبيعي جداً أن تقوم الجيوش والمنظمات الحليفة بعمليات الرماية على العدو المشترك ومنشآته، إلا أنّ في ما حصل لهو مليء بالمفاجآت والمدلولات الاستراتيجية.
من حيث التأثير على معنويات السكان، فقد وضعت هذه الضربة الإسرائيليين أمام مأزق كبير متمثل في حالة الهلع التي أصابتهم والتي لم يستطع الجيش الإسرائيلي المصنف من بين الجيوش الأوائل في العالم أن يبعدها عنهم. حالة الخوف هذه تأتي لتتوّج حتى الآن مساراً من الضربات المعنوية التي تلقاها السكان والتي بدأت مع التهجير القسري من الشمال الذي بات شبه فارغ من مستوطنيه، وهي مرشحة أن تستمرّ وتتعاظم مع تطور الوضع الميداني الذي يأخذ يوماً بعد يوم أبعاداً جديدة وخطيرة، ناهيك عن الوضع الاقتصادي الصعب الآخذ في الاستفحال والمرخي بثقله على قوة الإسرائيليين الشرائية، الذين باتوا يواجهون غلاء كبيراً في الأسعار.
تكمن الأهمية الثانية في تحليق هذه الطائرة على مسرى يبلغ من الطول 2200 كلم، هي المسافة التي تفصل الكيان عن اليمن، وذلك دون ان يتمكن أحد من كشفها ومعالجتها، الأمر الذي يعتبر ضربة موجعة جداً للدفاع الجوي الإسرائيلي، ونظمه مثل مقلاع داود والقبة الحديدية اللذين من مهماتهما الأساسية تدمير الأهداف الجوية المقتربة. أما اللافت، لا بل المدهش في الموضوع، أن الإسرائيليين باتوا يتكلون على القوات الأميركية والبريطانية المرابطة في الجوار الإقليمي لـ «إسرائيل» للقيام بمعالجة الأهداف الجوية أكثر ما يعتمدون على أنفسهم في هذا الإطار.
هذا، ويعرب بعض الضباط المتقاعدين وبعض الأوساط العسكرية عن دهشتهم حيال هذا الأمر، إذ شدّدت على أنه لولا تدخل الأميركيين والبريطانيين لمواجهة السرب الذي كانت مُسيّرة يافا فيه، لوصل بأكمله على هدفه ودمّره، علماً أنّ اليمنيّين أكدوا أنّ المُسيّرة لم تكن ضمن سرب بل جرى إطلاقها لوحدها وتمكّنت من الوصول إلى هدفها من دون صعوبات تُذكر.
لم يسبق للعدو أن اتّكل على قوى حليفة له لكي تنفذ المهمات المنوطة فيه أساساً. يمكن للحليف أن ينشئ جسراً جوياً كما حصل في حرب تشرين الأول عام 1973 لكن لم يسبق أن قاتل أحدهم نيابة عن القوات الإسرائيلية في أيّ حرب خاضتها. إنْ دلّ ذلك على شيء، فعلى ضعف أكيد في الجهوزية مما ينعكس سلباً على القدرة على الدفاع. يعدّ ذلك أمراً خطيراً للغاية.
تظهر في سياق متصل حقيقة أخرى وهي أنّ الدولة العبرية تخوض منذ نحو عشرة أشهر حرباً هي الأكبر في تاريخها، منذ إنشائها في العام 1948. بالرغم من ذلك كله، ومع كلّ جبروتها، لم تستطع منظومات الدفاع الجوي التي حققها جيشها وهي الأفضل في العالم، ان تصدّ هذه الطائرة والعديد من الطائرات الأخرى، ذلك بفضل التكتيكات المعتمدة من قبل المقاتلين في الجهة المقابلة. هذا الأمر يستدعي بالتالي، على حدّ قول الخبراء العسكريين والأمنيين، تحركاً سريعاً وإجراءات حاسمة من قبل المعنيين في الجيش الإسرائيلي للبتّ في ما إذا كان الأمر حصيلة خطأ بشري أم نتيجة اختلالات في الأنظمة الإلكترونية الدفاعية، بحيث أنه صادم حقاً أن لا تستطيع منظومات فائقة التطور والبالغة تكاليفها الملايين من الدولارات اعتراض وتدمير مُسيّرات أو صواريخ لا تتعدّى تكلفتها عتبة الخمسين ألف دولار.
ثالثاً، من المعلوم انّ الجغرافيا تقيم مع الحرب وفن الاستراتيجيا رابطاً فريداً بفحواه، إذ أنّ معرفة الأرض والمحيط المادي، الطوبوغرافيا والمسالك إلخ… هي شغل الأركان العسكرية الشاغل. فوقع الجغرافيا والخرائط العسكرية عظيم في إدراك العالم المتحرك. يقول فيليب بولانجيه المتخصص الفرنسي في الأمور الجغرافية إنّ كلّ الاستراتيجيين الكبار، قد بيّنوا، على مرّ العصور، أهمية المعارف الجغرافية. نذكر في هذا السياق ماكيافيل الذي تحدث عنها في كتابه «فنّ الحرب»، أو سان تزو الذي قال في كتابه «فنّ الحرب» أيضاً: «إعرف السماء إعرف الأرض ويكن نصرك كاملاً». لكن، بالرغم من أهمية هذه الطروحات، جاءت الصواريخ والمُسيّرات لتبدّلها بعض الشيء، بحيث تختصر المسافات والأمدية غير آبهة للتضاريس أو مجاري المياه أو البحار، تحلق بحرية تامة وتصيب أهدافها بشكل دقيق خصوصاً عندما نتكلم عن المُسيّرات. أضف إلى ذلك، يؤكد بعض المتخصصين العسكريين أنّ المُسيّرات أقلّ تكلفة من قذائف المدفعية وأكثر دقة. اختصر اليمنيون المسافات وغيّروا المفاهيم وأصابوا تل أبيب في قلبها؛ ها هم اليوم يحذرون سكان تل أبيب من مغبة البقاء فيها ويدعونهم إلى التوجه صوب صحراء النقب، لأنّ تل أبيب لم تعد آمنة.
رابعاً، يمكن أن نستبشر خيراً من الخرق المُسيّر على «إسرائيل»، وذلك لأسباب عديدة، قد تكون وحدة الساحات العسكرية التي فرضت نفسها عند تطور الوضع الميداني، وبات من المؤكد أنّ اليمنيين أحد نجومها. يمكن في هذا الموضوع توسيع فكرة وحدة الساحات، أقله في ما يخص اليمن. أخذ اليمن على عاتقه إقفال مياهه أمام كلّ السفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، الأمر الذي أغضب الدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي قرّرت قصف اليمن. قصفته فعلاً وأرسلت حاملة الطائرات آيزنهاور التي سرعان ما فتح النار عليها اليمنيون وأصابوها، مما حدا بالقيادة العسكرية اليمنية إلى سحبها من المنطقة. وما زالت القوات اليمنية تمنع جميع السفن المعنية من العبور عبر مياهها.
هنا، وقعت الواقعة وأعلن ميناء إيلات إفلاسه. وما انفكت الصواريخ اليمنية تنهال على دولة العدو واليوم نفذ اليمنيون خرقاً كبيراً بضرب يافا (تل أبيب). هنا يُسأل السؤال التالي، إنْ كان اليمنيون قد ألحقوا هذا الضرر الهائل في اقتصاد الكيان، وضربوا العاصمة تل أبيب ناهيك عن العمل الذي تقوم به المقاومة اللبنانية من استنزاف شرس للجيش الإسرائيلي واليوم أيضاً نفذت رماية على مستعمرة لم تستهدفها من قبل والمعارك الضارية مع المقاومة الفلسطينية، كيف سيكون الأمر على العدو إذا فتحت الجبهات كلها في الوقت نفسه وانهالت عليه الصواريخ والمُسيّرات من كلّ الدول التي تطوّقه فضلاً عن جميع فوهات النار من الجانب اللبناني من نيران راجمات ومدفعية مباشرة وهواوين إلى جانب الصواريخ المضادة للدروع والصواريخ الموجهة والبالستية والمضادة للطائرات مع إمكانية دخول إيران على خط المواجهة كما هدّد مسؤولوها السياسيون والعسكريون، وهي التي لم تتوان عن الردّ القاسي على «إسرائيل» بعدما اعتدت هذه الأخيرة على قنصليتها في سورية؟
سؤال قد يلقى رداً صاعقاً إنْ غامر نتنياهو واستجاب لمطالب اليمين المتطرف لديه ولو أنه ظاهرياً لا ينجرّ، إلا أنه في قرارة نفسه يستسيغ فكرة توسيع الهجوم ليشمل لبنان…
أما الردّ على اليمن فلم يكن كما أكد السيد الحوثي أكثر من عمل استعراضي يُراد منه أن يرى المستوطنون الإسرائيليون النيران مشتعلة في المنشآت المدنية في مرفأ الحديدة اعتقاداً أنّ ذلك قد يدخل بعض الطمأنة إلى نفوس سكان «إسرائيل»، لكن هؤلاء يعرفون أنّ الأمر آني ولا يمكن أن تفعل دولتهم ذلك كل مرة، وبالتالي سيبقى مصيرهم وأمنهم على المحكّ…
*كاتب وباحث سياسي لبناني