دولة على طريق استعادة الحقوق الكاملة
علي حمدالله*
يُقال إنّ ساعة الحائط المتعطلة تصيب مرتين في اليوم، وقد أصاب سموتريتش حين قال في خطابه أمام الكنيست عام 2017 وبصدد طرح خطته للحسم النهائي أنّه لا يمكن أن تعيش على الجغرافيا بين النهر والبحر رغبتان قوميّتان متناقضتان، قاصداً الرغبة الصهيونية والرغبة الفلسطينية، وبالتالي فإنّ أيّ حلّ سياسي لا يعالج جذر المشكلة لن يكون إلّا حلاً مؤقتاً سرعان ما ينفك أو يتحوّل لشكل آخر. إلّا أنّ الرغبات والأمانيّ وحدها لن تغيّر واقع موازين القوى والمحددات المادية لأيّ مشروع سياسيّ، ومن هنا يُعاد طرح حلّ الدولتين من جديد، ونرى أنّ هذا الحلّ لن يكون إلّا مؤقتاً. ولكن ما أهميّة إعادة طرح هذا الحلّ من جديد؟ وكيف يمكن أن يختلف عن وهم دولة أوسلو؟
القضية الفلسطينية ليست قضية مجرّدة تناقش في قاعات الأكاديميا بل هي قضيّة تقع في صلب الواقع بما فيه من ألم ودم وبطولة وتضحية وتخطيط وتدبير، وقد يساعد طرح حلّ الدولتين في ما يلي:
ـ توظيف الشرعية الدولية الرسمية والرأي العام العالمي وأدوار المؤسسات المحلية والإقليمية والدولية المختلفة في نزع الشرعية عن الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية بما فيه الاستيطان نحو تعزيز عزله ومقاطعته من جهة ودعم جهود تأسيس الدولة الفلسطينية بكافّة مكوّناتها ومقوّماتها الحقيقية من الجهة الثانية.
ـ تقديم الأساس الشرعي والقانوني لتدخل قوى دولية جديدة مثل الصين وروسيا على الصعيد السياسي وربما الاقتصادي مع تقويض الدور الأميركي الذي لم يكن إلّا دوراً صهيونياً كاملاً يرتدي بزّة رسمية ويتحدث الإنجليزية.
ـ توفير قاسم مشترك أساسي تلتقي عليه كافّة القوى والفصائل الوطنية والإسلامية نحو توحيد الجهود على أسس مقاومة الاحتلال، وكذلك إدماج مختلف مكوّنات المجتمع الأهلي والمدني في المرحلة الجديدة وبأدوار وخطط جديدة.
ـتقديم طرح سياسي متقدّم على الأمر الواقع الذي فرضته الصهيونية وفي نفس الوقت يدعم الجهود لوقف عمليات الإبادة في قطاع غزّة ولا يعيقها على أقلّ تقدير.
دولة… جوهر أم شكل؟
منذ إعلان الشهيد الراحل ياسر عرفات استقلال دولة فلسطين عام 1988 من خارج الأراضي الفلسطينية وبدون أيّ سيادة فعلية عليها، بدأ مسلسل الوهم، أيّ بناء شكل دولة دون جوهرها، وجاءت تفاهمات أوسلو ترسيخاً لهذا المنحى التاريخي، إذ عززت القوّة والهيمنة الصهيونية على كلّ ما هو جوهري وتركت للفلسطينيين شكل دولة فارغاً من مضمونه، إذ بموجب تفاهمات أوسلو وملحقاتها امتلكت الصهيونية سيادة مطلقة على الموارد الطبيعية والتجارة الخارجية والمعابر والحدود والضرائب، في الوقت الذي وقعت فيه القيادة السياسية الفلسطينية في فخ الطبيعة المؤقتة للاتفاق والتي تنص على انتقال السيادة على مناطق (ج) إلى السلطة الفلسطينية التي ستعمل على بناء جاهزيتها لذلك خلال مرحلة انتقالية من خمس سنوات، وعليه شرعت القيادة في مشروع بناء شكل الدولة أي مؤسساتها السيادية بسقف زمني ومعايير وأهداف غير واضحة أو محددة، وفي نفس الوقت استمرّ المشروع الصهيوني بالعمل على أرض الواقع عبر تعزيز مفاعيل القوّة والهيمنة والعسكرة والاستمرار دون توقّف بتوسيع الاستيطان على الأراضي التي من المفترض أن تنتقل للفلسطينيين، وتحديداً عند أزوف انتهاء المرحلة المؤقتة أدرك «أبو عمّار» حجم الخدعة وعمق الفخ، وحاول مواجهة ذلك من خلال تفجير أو دعم الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
ورغم ذلك ومنذ أوسلو إلى اللحظة ظلّ جوهر الدولة الفلسطينية في مسار من التآكل والاضمحلال والانتقال المستمر من السيادة الفلسطينية إلى الهيمنة الصهيونية وصولاً إلى الواقع المشوّه الذي سبق الطوفان، واقع الحصار والتجويع والعزل لقطاع غزّة، والتوسع المستمر للمخططات الاستيطانية في الضفة الغربية وتقسيم وتفتيت جغرافيا الضفة الغربية، وتقويض مطلق لمقوّمات الاقتصاد الفلسطيني وتعميق تبعيته وارتهانه والاستمرار في السيطرة الكاملة على المعابر والحدود والتجارة الخارجية، وأمام ذلك لم يبرح النهج الرسمي الفلسطيني محاولاته المستمرّة لاستجداء المجتمع الدولي لحماية الفلسطينيين وإنفاذ دولتهم بحسب التفاهمات والاتفاقات، في محاولة بائسة لتوظيف الشرعية الدولية في تحرير الأرض الفلسطينية. ولكن ومن الجهة الثانية حافظت الدولة الفلسطينية على شكلها إذ نجحت في الالتحاق والتوقيع على عدد لا يمكن حصره من الاتفاقيات الدولية وانتزاع التمثيل الرسمي الفلسطيني في عدد من المنابر الدولية.
هذه الدولة الشكل دون الجوهر والتي بدت كثوب مهترئ يكسو دمية لم تكن كافية بالنسبة للمخطط والعقلية الصهيونية، التي أعلنت في عام 2017 وفي محطات كثيرة سبقته ولحقته رفضها المطلق لأيّ كيانية سياسية فلسطينية حتى لو مشوّهة ومنزوعة السيادة والسلاح، وعملت بحثاثة على إجهاض هذه الكيانية وتقويضها وعزلها على كلّ المستويات وصولاً إلى أتفه التفاصيل، حيث ترفض المؤسسات الرسمية الإسرائيلية استلام أيّة مراسلة فلسطينية مكتوب في ترويستها الدولة الفلسطينية، كما تعترض على إدراج لفظ وطنية في عبارة السلطة الوطنية الفلسطينية، ما اضطّر المؤسسات الفلسطينية إلى استخدام ترويستين واحدة داخلية وواحدة مع «إسرائيل»!
على كلّ وفي حال كان حلّ الدولتين هو الحلّ الوحيد المتاح حالياً، فلا بدّ من استخلاص الدروس والعبر من تجربة فلسطينية مؤلمة ومحبطة ومذلّة امتدّت على مدار الثلاثة عقود الأخير.
دولة على طريق التحرير
وعليه يجب توحيد كلّ الجهود لبناء الجوهر الذي سيعزز الشكل وليس العكس، أيّ بناء دولة تملك مقوّمات حقيقية على أرض الواقع للسيادة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا قد يعني:
ـ السيادة الحقيقية على المعابر والحدود في ما يتعلّق بحركة السلع والأموال والبشر، مترافقاً مع إعادة هندسة وتخطيط الاقتصاد المحلّي على شكل وحدة اقتصادية متماسكة ترتبط فيها النشاطات الاقتصادية معاً وتعزز شبكات وسلاسل الإمداد المحلية، بحيث توفر المزرعة مدخلات المصنع، ويوفّر المصنع احتياجات المزرعة، وتعمل التجارة محليّاً ودولياً على خدمة القطاعات الإنتاجية، مع إعادة هندسة وتخطيط القطاع المصرفي وخططه وتوجهاته وأدواره.
ـ نقل مسؤولية جباية الضرائب عن التجارة الخارجية من «إسرائيل» إلى فلسطين، لإلغاء أسس الابتزاز السياسي من خلال قرصنة أموال المقاصة.
ـ السيادة على الجغرافيا المتصلة في داخل الضفة الغربية ومع قطاع غزة وهذا يشترط تفكيك المستوطنات في الضفة الغربية.
ـ استمرار المقاومة كجدوى مستمرة ويومية وتعزيزها، والاستناد على هذا الواقع لاستكمال مشروع التحرير…
*باحث فلسطيني في السياسة والاقتصاد