أولى

الكونغرس… خيمة سيرك غجرية!

‬ سعادة مصطفى أرشيد*

استبق بنيامين نتنياهو رحلته إلى واشنطن بإشعال المنطقة ودفعها إلى حالة من التوتر الشديد بدأت بقصف ميناء الحديدة، حيث استطاع الحصول من هناك على صورة الحريق الكبير الذي أعقبه ادّعاؤه بأنّ يده الطويلة قادرة على أن تصل إلى مسافات بعيدة وتملك مبادرة تستعيد بها القوة الردعيّة التي أرهقتها المقاومات الفلسطينية واللبنانية والعراقية واليمنية ثم بقصف جوار صور في لبنان والحصول على صورة حريق آخر وارتكاب مجازر إضافية في غزة كلّ ذلك على أمل أن تحصل ردود المقاومات اليمنيّة واللبنانيّة قبل مغادرته إلى واشنطن لاستثمارها هناك وتحقيق زيارته نتائج أفضل. ولم يغفل نتنياهو عن إرسال وفده المفاوض للدوحة، وكما قيل في الإعلام العبريّ مزوّداً إياه بصلاحيات تفوق الصلاحيات التي كان يتزوّد بها الوفد في السابق، وترافق ذلك مع أخبار مضللة تدّعي بأن فرص التوصل لصفقة مع المقاومة عالية.
كانت الدعوة قد وجّهت لنتنياهو في البداية من الحزب الجمهوريّ لإلقاء خطاب هو الرابع في الكونغرس، ولكن سرعان ما انضمّ الحزب الديمقراطي للدعوة. فالمجتمع الأميركي ومؤسساته السياسية تمرّان بحالة من الانقسام الشديد والتنافس في غمرة الاستعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة في تشرين الثاني وبعد محاولة اغتيال المرشح الجمهوريّ الأسبوع الماضي، هذا في وضع لم يجد فيه الجمهوريون من هو أفضل ليتقدّموا به، وفي المقابل أصرّ الرئيس العجوز بايدن المطعون في قدراته الصحية والذهنية على التنافس إلى أن وافق بعد ضغوط شديدة على أن يتنحّى لصالح نائبته كمالا هاريس ذات الشخصية الباهتة.
لكن سرعان ما شعر الحزب الديمقراطي بأنه قد تسرّع في المشاركة بدعوة نتنياهو، اذ اتضح له سريعاً أنها قد جاءت لحشد مزيد من الدعم للمرشح الجمهوري دونالد ترامب مما جعل المرشحة المنافسة تعلن أنها لن تحضر الخطاب في الكونغرس، وكذلك أعلن عدد من الشيوخ أعضاء المجلس الديمقراطيين ذلك بالهجوم على نتنياهو وعلى طريقة إدارته للحرب وعدم قدرته أو عدم رغبته في معالجة مسألة الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم المقاومة مرفقين ذلك بمظاهرات احتشدت حول الكونغرس تعترض على دعوته لإلقاء الخطاب وتحتجّ على سياساته، أما رئيس مجلس الشيوخ الجمهوري فقد أصدر تعميماً لأعضاء المجلس حذّرهم فيه من مقاطعة الخطاب أو إزعاج الخطيب تحت طائلة المساءلة أمام المجلس.
ألقى نتنياهو مساء الأربعاء خطابه الطويل في الكونغرس، وبدا المشهد وكأنه يدور في خيمة سيرك غجرية، أو بما يذكّر بما كان يحدث في خطابات القادة في الأنظمة الشموليّة حيث يأتي الخطاب بالتقسيط بسبب التصفيق والحماس الكاذب عند المستمعين للخطاب، وبما يثير العجب، إذ كيف يمثل هؤلاء السوقة والرعاع المجتمع الأقوى والدولة التي تحكم العالم؟ ويزول العجب عندما نرى الفوضى العالميّة ونتائج قيادة تلك الدولة وذاك المجتمع.
لم يأت نتنياهو في خطابه بما هو غير متوقع إلا من ناحية الحدة التي أبداها حين هاجم الجيل الأميركي الجديد المتمثل بالطلبة الجامعيين، وهم مَن سيقود الولايات المتحدة بعد عقد من الزمن، اتهمهم بالجهل وبمعاداة السامية، ثم بما أورد من تهم مشابهة للمحكمة الدوليّة، وما عدا ذلك فقد أكد المؤكد والمتفق عليه بين واشنطن وتل أبيب من أن الجيش (الإسرائيلي) يخوض حرباً باسم الولايات المتحدة وتحالفاتها الدوليّة والإقليميّة (العربيّة الإبراهيميّة) بالنيابة عنها، وعن حزمة القيم الليبراليّة الغربيّة، وأن «إسرائيل» هي خط الدفاع الأول الذي يحتاج لمزيد من الدعم كي تهزم باسم الحضارة التوحّش والوحوش الأدميّة الذين هم نحن. كرّر اتهاماته التي من عادة الإدارات الأميركيّة تصديقها فور إطلاقها بأنّ المقاومة الفلسطينيّة تسرق المساعدات التي تدخلها الحكومة (الإسرائيليّة) وأنها تستخدم المدنيّين كدروع بشريّة، وتجاهل السلطة الفلسطينية في رام الله التي يبدو أن لا دور لها في خططه، مؤكداً أنّ مَن سيحكم غزة في مرحلة ما بعد الحرب هي إدارة مدنية فلسطينية من غزة غير مسلّحة ولا تمثل أي تهديد لـ(إسرائيل) (أي سلطة عميلة).
في نهاية الزيارة سيقدّم نتنياهو لصديقه وحليفه الجمهوري ما يستطيع من دعم على الحساب الذي سيستوفيه في حال نجاح دونالد ترامب، وسيحصل على ما يريد من السلاح لإكمال مهمّة الحضارة بسحق التوحش والإرهاب، وسيعود مثقلاً بالهدايا العسكرية والمالية والغطاء القانوني والسياسي، وستنتهي سريعاً مفاعيل المتظاهرين الذين تجمهَروا أمام الكونغرس ومعهم مقاطعة الشيوخ والنواب المؤيدين لـ(إسرائيل)، وإنْ كانوا غير مؤيّدين لشخص رئيس وزرائها، فدعم «إسرائيل» ثابت من ثوابت السياسة الأميركية بغضّ النظر عن بيتها الأبيض أو كونغرسها وموقفهما من شخص رئيس الحكومة في تل أبيب.

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى