رحل والدي الروحي… أستاذي العميد د. أمين حطيط
د. إبراهيم العرب
ليست كلمتي هذه، ولا يمكن أن تكون، شهادة لفقيدنا الكبير الراحل العميد الركن البروفيسور أمين محمد حطيط، وإنما عربون وفاء لهذا الزعيم الوطني اللبناني العربي، الذي ملأ الدنيا في لبنان وسورية وسائر الدول العربية والإسلامية المقاومة نضالاً وجهاداً، وشغل عندنا وعندهم أكثر من خمسين سنة عمل متواصل دون انقطاع، من قائد لكلية القيادة والأركان في الجيش اللبناني ورئيس لفريق ترسيم الحدود اللبنانية والتحقق من الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، إلى أستاذ القانونين المدني والتجاري وفلسفة القانون في الجامعتين اللبنانية والإسلامية، فـ مشرف على مئات أطروحات الدكتوراه، بما فيها أطروحتي «شركة الأسهم المبسطة في القانون المقارن»، والتي أخبرني رحمه الله، بأنه أُسعد بالتبحّر معي فيها، كونها أول أطروحة في العالمين العربي والإسلامي تتناول هذه الشركة الفرنسية الأصل والمنشأ، وتسعى لاستحداث شبيهٍ لها في لبنان.
وقد غدا سيادة العميد كما كنت أحب أن أناديه، جزءاً عزيزاً وغالياً من حياتي، ألتقيه أسبوعياً على مدار ست سنوات في منزله، للسعي بالتبحّر بالنصوص والكتب الفرنسية، لأنّ موضوع أطروحتي كان يفتقر حتى لبضعة أوراق بحثية باللغة العربية تشرح ماهية مفهوم تلك الشركة.
وكان العميد مرجعاً تعليمياً موثوقاً، وفقيهاً ومجتهداً في القانونين اللبناني والفرنسي على حدّ سواء، باحثاً معي على الدوام عن ثغرات في النصوص التشريعية في مشروع استحداث تلك الشركة في لبنان، الذي لم يصل للأسف حتى الآن إلى مصاف مشروع قانون.
لذا، فإنّ لسيادة البروفيسور المثقف بعمق والمرموق أكاديمياً، بصائر ورؤى، تضاف إلى معانيه ورموزه ومناقبيته العسكرية، التي يمتاز بها ليرتقي إلى مراتب الفقهاء والعلماء الكبار النادرين.
كما أنّ بصائره استنارت بصدق إيمانه ومحبته لنهج المقاومة والدفاع عن وطنه، وتحصّنت بنبل المُحتدّ وكرم الخُلق والمعشر، ورُحِّبت آفاقه بانفتاح قلبه الطيب على الآخرين وعقله النيِّر على الأصدقاء والمحبّين، وبشمول معرفته وسعة علمه واطلاعه، ومواكبته المستمرة لركب العلم والتطور القانوني، حتى كان لي بعد نيلي درجة الدكتوراه بفضله بتقدير جيد جداً، شرف التعليم الجامعي لصفوف الماجستير في قسم القانون التجاري الذي يرأسه في كلية الحقوق في الجامعة الإسلامية في لبنان عام 2021.
ووراء كلّ هذا، لا يمكن أن تغيب عني كلّ لحظة من اللحظات الجميلة الفاصلة التي عشتها معه، في مسيرة علمية طويلة، ومواقف علّمني إياها في تاريخه النضالي والوطني العريق.
ولا يسعني إلا أن أتذكر نضاله المستمر بلا هوادة، وكيف كان يقاطعني في العديد من الأحيان لينتقل إلى البث المباشر على الهواء، إثر تلقيه مكالمة من وسائل الإعلام، وبالأخص من قناة «المنار» الحبيبة على قلبه.
وكان دوماً متسلحاً بشجاعة الريادة وبطولة القيادة، نتيجة وفرة علمه وعمق حكمته وقلبه الحاضر الذي لا يعرف الخوف أو الوجل، من أجل حماية لبنان ووحدته وعيشه المشترك، ومن أجل خير العرب الأحرار والمقاومين.
ووجدته دوماً محباً بإخلاص لسورية، وحريصاً على النضال من أجلها، لكي تستمر كقلعة للعروبة المقاومة الحقّة، بعيداً عن نماذج التطبيع التي كان يكرهها، ويتألّم من سماع أصوات مؤيديها.
وعليه، رأيته يحلم بلبنان كحصن للمقاومة، والحرية والديمقراطية، وكل ذلك إيماناً منه بأهمية الحفاظ على الأراضي المحررة في الجنوب، مسقط رأسه، لا سيما أنه ابن بلدة الدوير الأشمّ، التي هي مسقط رأس جدتي أيضاً رحمها الله، والتي كان يدعوني لزيارتها.
ولكم من شعار أطلقه العميد حطيط رحمه الله، في حياته الوطنية للوقوف خلف حزب الله والمقاومة في لبنان، التي كان مدافعاً شرساً عنها، وقد كرّس عصارة عمره وتراكم تجربته لكي يُعلي من شأنها ويرفع من قدرها.
وكان الأحب على قلبه أن يكتب في جريدة «البناء» الغرّاء مقالته الأسبوعية، نظراً لما يكنّه من معزة للحزب القومي السوري الاجتماعي، ولرئيسه معالي الوزير السابق الأستاذ أسعد حردان، حفظه الله وأطال بعمره، ولأنّ هذه الجريدة كما كان يردّد، ناصرت وتناصر سورية، قلب العروبة النابض، بأزمتها، وعملت وتعمل قدر استطاعتها للدفاع عنها في مواجهة الأعاصير التي تواجهها، أو كما كان يسمّيها «الحرب الكونية عليها».
ومع غياب البروفيسور العميد الركن أمين حطيط، رحمه الله، انطوى أحد أهمّ وأبرز الوجوه من الرعيل الأنبل من مناصري المقاومة اللبنانية، والذي سيبقى له الفضل الأكبر في مسيرتي العلمية والمهنية، وفي دفعي قدُماً في دروب التطور والنهوض لبناء مستقبل أفضل. ولكم دعا سيادته لمعالجة مُشكلات الطائفية في المؤسسات الأساسية في الدولة، لأنه كان يرى أنها تهدّد الصيغة والكيان اللبناني على حدّ سواء، مستلهماً حسّه السياسي المرهف من سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أطال الله بعمره، الذي كان بمثابة الملهم له، في العمل الوطني والمقاوم.
ومثل أمين حطيط، لا ينقطع عمله ولو فارق الحياة، ومنزلته اليوم في جنان الخلد إلى جوار ربه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والشهداء والصديقين، وحسن أولئك رفيقا.
وختاماً، نتقدم بتعازينا الحارة لأسرة العميد أمين حطيط الغالية، لا سيما لزوجته المخلصة وأبنائه، ولعموم عائلة حطيط العريقة، كما نتقدم بخالص العزاء والمواساة لأساتذة وموظفي الجامعتين اللبنانية والإسلامية، ولرفاق دربه في الجيش اللبناني، ولكل سكان بلدة الدوير الجنوبية الأبية والمقاومة الحرة، ألهمكم الله الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.