«النكرات والمتسلقون»…
المهندس باسل قس نصر الله
منذ سنّ الدراسة، أصرّ والدي «إميل» أن أدرس في حلب عند أهل أمي، بعيداً عن اللاذقية حيث كان أبي وأمي مقيمَين فيها وذلك لدواعي العمل، وكنت أرسل لوالدي – كل أسبوع – رسالة له، والمضحك أنه «رحمه الله» كان يعيد لي رسائلي بعد تصحيحها لغوياً وباللون الأحمر وكأنه أستاذ مدرسة، وكأنني طالب، ويُعيدُ لي الرسالة وكأنها ورقة امتحان فيها الكثير من الخطوط الحمراء، ولا يبق إلّا أن يضع العلامة عليها.
كنت أتخيّله واضعاً يديه على أذني، عندما أخطئ في كتابة جملة او كلمة باللغة العربية، وهو يتهيأ لي بشكلهِ الغاضب والمزعوج، وأنا اعرف في سريرتي كم هو محبٌ وعطوف.
في إحدى المرات اتصل بي هاتفياً ليؤنّبني على خطأ كبيرٍ برأيه، إذ أنني لم اضع /أل/ التعريف أمام كلمةٍ نكرة لتصبح مُعرّفة، ولم أفهم آنذاك الفرق.
في اللغة العربية تكون كلّ كلمة، نكرة حتى نضع لها /أل/ التعريف، فتصبح آنذاك مُعرّفة، وعندما نحذف /أل/ التعريف، تعود هذه الكلمة.. نكرة، فنقول «شمس» وهي نكرة أو «الشمس» فتصبح مُعرّفة.
دأَبنا منذ فترة طويلة إلى اختيار بعض المسؤولين – وأركّز على البعض – من نوع النكرة، وأعطيناهم المناصب التي هي بمثابة /أل/ التعريف لهم، فيصبحون مُعرّفين ومعروفين، ويعتقدون أنهم مُعرّفون بالأساس، وتراهم على صفحات المجلات وفي الإذاعات والفضائيات، إلى درجة أنهم يعتقدون بأنّ العالم كله – وليس فقط سورية – لا يمكنه ان يعمل دونهم ودون مشورتهم.
حتى يحين سحب مناصبهم – أيّ /أل/ التعريف – فيعودون الى مواقعهم – كما كانوا – أشخاصاً نكرة.
يتسلّقون المناصب، ويبنون علاقات مع نَكِراتٍ مثلهم، يبحثون عن /أل/ التعريف لهم، من خلال المراكز والألقاب.
هم على استعداد لأن يدفعوا مالاً لمن يكتب لهم، في كلّ شيء، من الاقتصاد – الذي أصبحوا منظّرين فيه، لا بل على قاب قوسين أو أدنى من استلامهم جائزة نوبل فيه، ويخترعون الجوائز ويوزعونها على بعضهم البعض، فمن جائزة الاقتصاد في تربية الدجاج، إلى جائزة التوفير في تلميع الأرضيات، فقط تكفيهم الصور وحفلات التوزيع والمقالات التي تشيد بعبقريتهم النادرة في المجلّات التي يموّلونها لنشر نظرياتهم النيّرة.
يُلقون المحاضرات، التي تمّت كتابتها لهم، من الاقتصاد إلى السياسة الدولية والإقليمية، إلى درجة أصبحتُ أخاف عليهم من سرقة أفكارهم، المتعددة من البيئة والزراعة والصناعة… حتى أبحاثهم في الرقص الشرقي والموسيقى الشرقية والأحلام الشرقية.
يَظهرون على وسائل الإعلام تحت مسمّيات أهمّها المحلل الاستراتيجي».
سئمتُ من ابتسامات هؤلاء المتسلّقين، الذين تحمّلناهم لسنين طويلة وأوصلونا إلى ما وصلنا إليه سياسياً واقتصادياً وثقافياً ورياضياً.. وحتى دينياً، هم نكِرات متعددة، ولكن للأسف هناك من أوصلهم عن معرفة بهم، ومنهم من أوصلهم عن جهل.
اليوم أكثر من أيّ يوم مضى، علينا أن نختار الأشخاص المُعرّفين بذاتهم، وليس بمناصبهم، وعلينا الانتباه إلى أولئك النكرات الذين يستخدمون المال السياسي ويسخّرونه لأجل /أل/ التعريف.
دائماً هناك استحقاقات، ودائماً هناك اختيارات، فلنسأل أنفسنا فقط سؤالاً واحداً عن الشخص الذي نريد أن نختاره للمسؤولية: «هل /أل/ التعريف هي من أصله أم أنه نكرة؟»
اللهم اشهد اني بلغت…