عندما تُكْسَرُ قوائمُ كلب الحراسة
د. حسن أحمد حسن*
لا يختلف عاقلان على أنّ النباح الصاخب يمثل المهمة الأساسية لكلاب الحراسة التي يُخَصَّص لبعضها «وجار» يقيه تقلّبات الطقس والظروف الجوية الطارئة، ومع التطور السريع الذي شهدته حياة الدول والمجتمعات زاد الاهتمام بتصاميم مختلفة للوجار المخصّص لكلب الحراسة، فمنها المعدني، ومنها البيتوني، وغير ذلك من أماكن اتسعت مساحتها ونفقاتها المطلوبة التي لا تعني شيئاً لدى من نصّبوا أنفسهم متحكّمين بالقرار الدولي، وبفرض النموذج الذي يناسبهم ويخدم مصالحهم في هذه الدولة أو تلك، بل وحتى في هذا الإقليم أو غيره، فأبالسة ما يُدعى حكومة الظلّ أو الحكومة الكونيّة الخفيّة تبيح لنفسها التصرف كآمر مطلق الصلاحية في العالم على رحابته، وفعل كلّ ما يساهم في الحفاظ على الهيبة والنفوذ وبسط السيطرة للتحكم بالموارد والثروات وتوجيه استثمارها بما يُحرم الشعوب صاحبة الحق من حقها في الحياة وفق قناعاتها وإرادتها الذاتية، ولا ضير لدى أصحاب العقول الشيطانية من أولئك في اعتماد السياسات التخصصيّة لإشعال الحروب وإثارة الفتن والاضطراب واحتلال دول مستقلة إذا تعارضت سيرورة الحياة في أيّ دولة أو إقليم مع الهيمنة المطلقة لمن رسموا سياستهم على أن يكون القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً صرفاً، ويمكن القول بكثير من اليقين: إنهم كادوا أن يقتربوا من تحقيق أحلامهم الشيطانية مع أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 فكان التغوّل والتوغّل الأميركي بلا حسيب أو رقيب، وحتى الدول العظمى التزمت الصمت ومراقبة التطورات بكثير من الخوف والقلق والتوتر.
ما أزعج أولئك المتفرعنين أنّ كلب الحراسة الأكبر المكلف بحماية مصالح النيوليبرالية في الشرق الأوسط بدأت عليه علامات الهرم، ولم تُجْدِ نفعاً عمليات الاستنساخ الجيني لأكثر عتاة الصهيونية إجراماً، بل جاءت النتائج مناقضة للمطلوب، ولم يعد بإمكان نتنياهو الحفاظ على الموروث الإجرامي الذي وصل إليه بعد عقود من التوحش المحميّ بالقوة الأعظم عالمياً، وها هو اليوم مع جميع أقرانه من مصّاصي الدماء وقتلة الأطفال يدجّنون أنفسهم مع لعنة الثمانين عاماً المرافقة لما يسمّونه «الدولة اليهودية». وهكذا وجد الكيان المزروع على الجغرافيا الفلسطينية نفسه أمام حقيقة تتبلوَر مفادها: إنّ اسم نتنياهو لن يدخل التاريخ كشبيه لمن سبقه من الآباء المؤسّسين للصهيونية الكيانية بمن فيهم بن غوريون، بل سَيُدَوَّن في أحسن الأحوال كآخر ملوك «إسرائيل»، وكل معطيات الواقع وقرائنه الدالة تشير إلى ذلك، فكلب الحراسة الذي تم تفويضه بفعل ما يريد في المنطقة كلها، مع ضمان تام لحمايته من أي مساءلة دولية مقابل الحفاظ على مصالح المتحكمين بالقرار الكوني في هذه المنطقة الجيوستراتيجية من العالم تبيّن أنه عاجز عن الاستمرار بهذا الدور الوظيفي القذر. وليس هذا فحسب، بل إنه عاجز حتى عن حماية نفسه إلا بالاعتماد على من نصَّبوه شرطياً مطلق الصلاحية بعصا غليظة له كامل الحرية أن يهوي بها متى شاء على رأس مَن يشاء، وفجأة تتبدل الصورة وتنقلب رأساً على عقب، فكلب الحراسة الذي يروّع الآمنين، ويلاحق بنباحه وزمجرته كل المارين حتى من مسافة بعيدة لم يعُد يخيف عاقلاً قط، لأن قوائمه الأربعة لا تقوى على حمله، فبعضها قد كُسِرَ، وبعض آخر أصيب برضوض بنيويّة هيهات لها أن تتماثل للشفاء، واضطر صاحب الكلب أن يحضر شخصياً لترميم ما تبقى من وجارٍ متداعي الجوانب بعد أن خرج المقاومون المؤمنون بربهم وبقضيتهم، والواثقون بأنفسهم وبقدرات بقية أقطاب محور المقاومة الداعم لهم والشريك في أي انتصار فغمرت مياه طوفانهم المبارك الكيان الوظيفيّ بكل مكوّناته.
نعم لقد خرج المارد العملاق من قمقمه في السابع من تشرين الأول 2023 وامتدّ الطوفان ليجرف حواف الوجار الصهيوني ويحطم جدرانه ويصل إلى الكلب المسعور وينهال عليه ضرباً مبرحاً كسَّر قائمتيه الأماميتين: «الجيش والأمن» وأعطب الخلفيّتين: «الداخل الاستيطانيّ والرأي العام»، واقتلع العديد من المخالب والأنياب السامة: «هيبة الردع ــ الازدهار الاقتصادي ــ واحة الديمقراطية ــ التفوّق التكنولوجي الخ.»، وامتد ارتداد أمواج الطوفان إلى داخل مطبخ الاستراتيجية الكونية، وكل ما يعلو اليوم من تهديد ووعيد، ويطفو على السطح من عسكرة أميركيّة مرعبة للمنطقة ليس أكثر من نباح مسعور لا يخيف إلا المنضوين تحت العباءة الصهيو ـــ أميركية الممزقة، فالتبجح بإرسال طائرات «F22» وإصدار الأوامر لحاملة الطائرات «إبراهام لينكولن» وللغواصة «جورجيا» الحاملة للصواريخ الاستراتيجية ذات الدقة العالية والطاقة التدميرية الهائلة، واستجرار الأساطيل والكوماندوس، وكل ما يتعلق بذلك لا يغير شيئاً في معالم اللوحة الميدانية العامة التي رسمت أبعادها وثبتت ألوانها بالأحمر القاني من دماء عشرات آلاف الشهداء وأضعافهم من الجرحى، وإذا كان هناك من يتوهم أن إرسال هوكشتاين أو غيره من المبعوثين، وتأكيد التعهد بالدفاع عن «إسرائيل» والتهديد بإشعال المنطقة يرعب أقطاب محور المقاومة، أو يثني أصحاب الحق عن الردّ على التوحش الإسرائيلي الذي طال قلب طهران والضاحية الجنوبية والحديدة وبقية الجغرافيا على امتداد المحور المقاوم، فعلى المتوهّمين والحالمين أن يوقنوا أن الحلم مهما طال محكوم بالتلاشي لحظة فتح العيون على حقيقة الواقع الذي يؤكد أنه تم إعداد العدة لأسوأ السيناريوات، وإذا كانت ملحمة طوفان الأقصى قد وأدت هيبة الردع الإسرائيلي، فأي حماقة تُرتكب في سياق حماية تل أبيب من الردّ والانتقام ستكون الفتيل الذي يشعل المنطقة، وقد تمتدّ ألسنة اللهب إلى الأبعد من المنطقة والإقليم، والنتيجة الحتمية المتيقن منها من حرب محتملة كهذه لن تتجاوز انهيار هيبة الردع الأميركي وإلى غير رجعة، وتهيئة البيئة الاستراتيجية لإسدال الستار على الأحادية البغيضة، بغض النظر عن حجم الدمار والخسائر التي قد تلحق بجميع أطراف محور المقاومة، لكن حتى لو تمّ القضاء على 90% من مكونات هذا المحور بشرياً ومادياً فهو قادر على ترميم نفسه بمن يتبقى، والآخرون لا يملكون ذلك لا بالأمس ولا اليوم ولا في المستقبل القريب أو البعيد، وعلى الرؤساء في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وأميركا ألا يزعجوا أنفسهم بإصدار بيانات تستهدف مصادرة كل ما أنجزته المقاومة، فهيهات لهم هيهات.
نقطة أخيرة أودّ الإشارة إليها في هذا السياق تتعلق بإمبراطورية الإجرام الأميركي، وما يُدعى الحكومة الخفيّة، وأسوقها بصيغة تساؤل مشروع: هل يقامر متزعّمو النيوليبرالية وأصحاب نظرية المليار الذهبي بكل ما راكمه من سبقهم كرمى لكلب حراسة عاجز إلا عن النباح؟ وبالمقابل: أليس من واجب أطراف محور المقاومة وكل أنصار العقل والمنطق والحق والعدالة في العالم أن يكملوا الدرب مهما كانت التكلفة، فتحصين 50% مما أنجزه المحور المقاوم كفيل وكافٍ لتثبيت قواعد الاشتباك الجديدة، وإدخال التعديلات المطلوبة على ميزان القوى إقليمياً ودولياً، وغني عن القول: إنّ سورية كانت وتبقى واسطة عقد المقاومة، وأي إنجاز مقاوم لا يمكن أن يتبلور إلا بسورية القويّة واسطة هذا العقد، وأية محاولة من أي طرف كان للقفز فوق الدور المحوريّ لسورية التاريخ والجغرافيا والاستراتيجيا محكوم عليها بالفشل المسبق، وبيننا وبينكم الأيام والليالي والميدان.
*باحث سوري متخصّص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية