اختبار القوة المرتقب استراتيجي
ناصر قنديل
– على مساحة تزيد عن ملايين الكيلومترات المربّعة سوف تكون السماء مسرحاً لما سوف يشاهده الملايين في المنطقة والعالم، من منازلة نارية غير مسبوقة طرفاها واشنطن وطهران. وسوف ترسم هذه المنازلة بنهاياتها الكثير من التوازنات والمعادلات، سواء أدّت الى التدحرج نحو حرب كبرى، أو شكّلت دفعاً لتجميد المخاطر الحربية والعودة الى سياقات التفاوض. فما يجري هو أن إيران ملتزمة برد رادع على كيان الاحتلال، وفق معادلة أن رسالة نيسان الناريّة لم تكن كافية لإفهام قادة الكيان بعدم التفكير مجدداً باللعب مع طهران، بدليل أنّهم أعادوا الكرة بما هو أصعب وأدهى، ما يعني أن الردع اللازم يجب أن يكون أضعاف ما جرى في نيسان. وبالمقابل سواء كانت واشنطن قد منحت الضوء الأخضر لاستهداف إيران أم لم تفعل، فهي ملتزمة علناً بفعل كل ما يلزم لتجنيب كيان الاحتلال ما يريده الإيرانيون من ردهم الرادع. وهكذا تنتقل المنازلة من صفتها الأصلية منازلة بين إيران والكيان لتصبح منازلة إيرانية أميركية.
– لا يتحمل أي من الفريقين الخروج خاسراً من هذه المنازلة، والتداعيات لا يمكن حصرها بالخسارة. ويكفي القول إن ايران إن خسرتها سوف تخسر مكانتها الإقليمية المتقدمة، وسوف يكون لهذه الخسارة انعكاسات على معارك مثل بقاء أو انسحاب القوات الأميركية من سورية والعراق، ومستقبل البلدين. ومستقبل سورية والعراق لا يخصّ إيران وحدها بل له تداعيات وتبعات على قوى دولية كبرى تنافس أميركا على المعادلة الدولية الجديدة، وتربطها بسورية علاقات تعاون استراتيجي، وهذا يطال مباشرة كلاً من روسيا والصين. أما واشنطن فإن خسارتها تعني عدم قدرتها الاحتفاظ بقواتها في سورية والعراق، والتسليم بسقوط الردع بوجه إيران وقوى المقاومة، وتزعزع قواعد وركائز الأمن الاستراتيجيّ لكيان الاحتلال في المنطقة، ووضعه على سكة التراجع السريع والتداعي العسكريّ.
– ليس معلوماً إن كانت لا تزال ثمة وساطات سياسية قادرة على تفادي هذه المنازلة، وتخفيض مستواها، والباب الوحيد هو إعلان مفاجئ عن اتفاق يُنهي الحرب على غزة بشروط تقبلها المقاومة، بصورة تستدعي موقفاً أميركياً يحبط كل مشاريع بنيامين نتنياهو وخططه للتلاعب بالوقت والمفاوضات. وهذا لا يبدو في الأفق راهناً، والتسليم الأميركي بالتراجع عن حماية الكيان أشدّ صعوبة من خيار الضغط لإنجاز اتفاق حول غزة، والتسليم بعدم وقف العمليات على الاحتلال الأميركي لسورية والعراق يعني تسليماً بالانسحاب من هذين البلدين، وهذا لا يبدو على جدول أعمال واشنطن. بينما الحشود الأميركية الى المنطقة والتصريحات المرافقة لها تقول إن الأمر بدأ يخرج من السياسة الى الميدان، وفي إيران يبدو أن الأمور تسير بالاتجاه ذاته، حيث أخلت وزارة الخارجية الإيرانية منصة المساعي الدبلوماسية بتأكيد حق الردّ ومستواه الرادع، وصار الأمر للميدان.
– الأرجح أن حسابات واشنطن حول المنازلة مختلفة عن حسابات طهران، رغم حصر واشنطن مهمتها الحربية بالتصدّي للصواريخ والطائرات المسيّرة الآتية من إيران نحو فلسطين المحتلة والسعي لإسقاط أكبر عدد منها. ويبدو أن العقول الإيرانية والعقول الأميركية منصرفة على وضع الخطط المتقابلة، كيف سوف تتمكّن إيران من إيصال أكبر عدد من الرؤوس المتفجرة الى عمق الكيان وإصابة أهدافها بدقة، وكيف سوف تتمكن واشنطن من منعها من ذلك، وهذه حرب عقول وتقنيات، يبدو أن كل طرف فيها واثق من التفوّق وتحقيق أهدافه، حتى صارت المنازلة ضروريّة لقول الكلمة الفصل. وهذا يعني أننا ربما نكون على موعد مع عمليّة مواجهة مستمرة في الأجواء لساعات طويلة، تُخرج فيها إيران ما لم تستخدمه من قبل، وتظهر فيها واشنطن كل ما في ترسانتها من تقنيات مضادة، وسوف يتاح لروسيا والصين الرصد عن كثب والمراقبة اللصيقة، لمعرفة الكثير وفعل الكثير، حيث إيران رأس حربة لحلف دولي لن يسمح بخروج واشنطن منتصرة إذا وجد أن الأمور تأخذ هذا المنحى، بينما سوف تكون قوى المقاومة في المنطقة معنية بخوض المنازلة بكل قوة لتمنح الرد الإيراني فرص الفوز، خصوصاً مع امتيازات الجغرافيا التي يمتلكها كل طرف، العراق واليمن بالقدرة على تشتيت الدفاعات الأميركية والإسرائيلية، ولبنان بالقدرة على التملص من الاعتراضات الأميركية.
– ليست القضية بالردّ الإسرائيلي على الرد الإيراني، فهذا الرد الإسرائيلي اعتراف بنجاح الرد الإيراني وفشل الردع الأميركي، وعندها هو مجرد مخرج من الاعتراف بالفشل، للحفاظ على وتيرة تصعيد، تذهب نحو حرب أوسع تمهيداً لتسوية كبرى، أو نحو تراجع تدريجيّ وتسوية صغرى، وفي الحالين الربح سوف يكون قد تحقق لإيران وقوى المقاومة. القضية بعدم الحاجة لرد إسرائيلي عندما يكون الأميركي قد نجح بالتصدّي لأغلب الرؤوس الإيرانية المتفجرة، وفي هذه الحالة سنكون على موعد مع تصعيد ضربات من نوع آخر تستهدف الكيان وتمهّد للعبور البريّ، حيث لا قدرة عند أميركا على تقديم العون ولا قدرة للكيان على مواجهة التحدّي، وعندها تصبح للتسوية نوعية مختلفة وثمن مختلف، لعل الأميركيين فكروا بذلك ولعلهم لم يفكروا؟