أولى

سياسة الهروب إلى الأمام

زياد حافظ*

في جوّ التصعيد الكلامي والعسكري المحموم في غرب آسيا وشرق أوروبا لا بد من التوقّف عند أسباب ذلك التصعيد. وما يجب التأكيد عليه هو أن العقل الذي يدير التصعيد الكلامي والميداني في المسرحين هو عقل الدولة العميقة في الولايات المتحدة عبر منفّذيها في الإدارة الحالية. والمشكلة التي تواجهها هذه الدولة العميقة هي أن إمكانياتها الفعلية على الصعيد العسكري والاقتصادي غير كافية لتنفيذ استراتيجية تحقّق الهيمنة على مقدّرات الدول. فصورة القوّة التي لا يمكن قهرها والتي روّجتها إدارات مختلفة بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي تحطّمت بعد صعود المجموعة الأوراسية ومنظومة البريكس في عالم الجنوب الإجمالي الرافض للهيمنة الغربية وخاصة الأميركية. والخروج المذلّ للقوّات الأميركية من أفغانستان بعد احتلال دام أكثر من عقدين من الزمن خير دليل على إخفاق القوّة العسكرية في آسيا ويعزّز الصورة المهتزة التي ظهرت بعد هزيمتها في فيتنام.
كما تحطّمت أسطورة الأداة الموضوعية لسياسات الولايات المتحدة في غرب آسيا، أي الكيان الصهيوني المحتّل، بعد صعود المقاومة في لبنان وفلسطين، وبعد صمود سورية أمام العدوان الكوني عليها، وبعد صمود وصعود اليمن بعد حرب قادتها قوّات التحالف تديرها الولايات المتحدة، وبعد تنامي قوى شعبية في العراق ترفض الوجود الأميركي في العراق. فتحطيم الصورة النمطية التي سيطرت على عقول النخب العربية لمدة ثلاثة عقود بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي خلقت مأزقاً مستعصياً للولايات المتحدة لتمركزها المادي والسياسي في غرب آسيا.
والمقصود هنا أن صورة القوّة العسكرية الأميركية المتفوّقة أصبحت فقط في الأفلام الهوليوودية وفي المخيّلة الجماعية الأميركية بدلاً من الواقع. وتجلّى ذلك الإخفاق العسكري مجدّداً في عجز القوّات البحرية الأميركية في ردع اليمن عن التحكّم في الممرّات البحرية في البحر الأحمر والمحيط الهندي. ويعود ذلك الإخفاق لعدّة أسباب موضوعية وذاتية لسنا في إطار هذه المطالعة تفصيلها لأن موضوعنا هو استشراف ما يمكن أن تقوم به كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في مقاربة الاستعصاء العسكري والسياسي في كل من شرق أوروبا وغرب آسيا.
أمام تدمير القوّات الأوكرانية على يد القوّات الروسية وأمام صمود المقاومة في غزّة وأمام الخطر الوجودي على الكيان الصهيوني الذي تمثّله المقاومة في لبنان وسورية والجمهورية الإسلامية في إيران والقوّى الشعبية المقاومة في العراق وفي اليمن، فالخيارات المتاحة لكل من الولايات المتحدة والكيان الصهيونيّ أصبحت محدودة جدّا. فالخيارات هي إما القبول بالهزيمة العسكرية والسياسية وإما الهروب إلى الأمام عبر تصعيد كلامي يردع محور المقاومة أو المضيّ إلى النهاية في مواجهة عسكرية يدخل فيها العامل النووي في المعادلة. فالمسألة أكثر من لعبة بوكر يلعب فيها الكيان والولايات المتحدة “السولد” أو لعبة “الدجاج” على شفير الهاوية كما يحلو للأميركيين لعبها للتعبير عن القوّة والشجاعة! لعبة “الدجاج” هي إجبار الخصم على الهروب أمام التحدّي. وهذا اقتباس من اللغة العامية الأميركية للتعبير عن ذلك (to chicken out). بالمقابل، محور المقاومة يجيد لعبة الشطرنج (بل اخترعها) ويجيد الصبر الاستراتيجي المتوفر لدى حائك السجّاد. محور المقاومة وضع كلٍّ من الكيان والولايات المتحدة في موقع “الزوغزوانغ” (zugzwang) حيث يضع لاعب الشطرنج خصمه في وضع أن أي خطوة يُقدم عليها تؤدّي إلى خسارته!
الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ليسا في وارد الإقرار بالهزيمة كما ليس بإمكانهم المبادرة إلى تغيير المعادلات الميدانية بالوسائل التقليدية. فقوّات الكيان الصهيوني لم تستطع بعد عشرة أشهر هزيمة المقاومة في غزّة، والولايات المتحدة لم تستطع ردع اليمن عن التحكّم بالممرات البحرية في المحيط الهندي والبحر الأحمر. وبالنسبة لمسرح العمليات في أوكرانيا فبات واضحاً أن كل إمكانيات الحلف الأطلسي التي أرسلت إلى أوكرانيا لم تستطع وقف الزحف الروسيّ. وبناء على كل ذلك بدأ الكلام عن استعمال السلاح النوويّ “التكتيكي” كوسيلة لتغيير المعادلات على قاعدة أن الروس لن يجرؤوا على الردّ بعد تموضع الصواريخ البالستية الأميركية في الدول المجاورة لروسيا وخاصة في بولندا. فعدد من المواقع وخاصة في أوساط المحافظين الجدد الذين يتحكّمون بمفاصل السياسة الخارجية الأميركية يتكلمون عن الخيار النووي كخيار “ممكن” لكسر التفوّق العسكري التقليدي لصالح روسيا. كما أن كبير الحاخامات في الكيان الصهيوني والمرشد “الروحي” لسموتريتش وبن غفير يدعو بصراحة إلى استعمال “الوسائل الحاسمة” لدى الكيان وغير الموجودة لدى الجمهورية الإسلامية في إيران.
هذا الكلام لا يعني بالضرورة حتميّة الخيار النووي لدى الولايات المتحدة والكيان بل ما نريد أن نقوله إنه موجود ويجب أخذه بالحسبان. في تقديرنا، نعتقد أن روسيا تأخذ على محمل الجد الكلام الأميركي والإجراءات العسكرية في تموضع الصواريخ البالستية في بولندا وفي عدد من الدول المجاورة لروسيا. كما أن لدى روسيا معطيات حول التصعيد الميدانيّ في غرب آسيا وخاصة في سورية. وهذا ما أكّده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد لقائه المفاجئ مع الرئيس السوري بشّار الأسد. ويجب أيضاً الالتفات إلى كلام السيد حسن نصر لله في تشييع الشهيد فؤاد شكر عندما اعتبر أن المعركة دخلت مرحلة جديدة. فالاغتيال بحدّ ذاته ليس بجديد ولا حتى استهداف الضاحية الجنوبية في بيروت، بل إن الخط الذي يربط بين النقاط التي ذكرناها يؤكّد أن التصعيد هو عنوان المرحلة. ونعتقد أن استهداف الجمهورية الإسلامية في إيران قرار استراتيجي اتخذته الولايات المتحدة وهذا ما أكّده خطاب بنيامين نتنياهو في الكونغرس الأميركي وإلا لما سُمح له بهذا الكلام بل تمّ التصفيق بحرارة له. فكل الكلام الأميركي في مراكز الأبحاث والمنصّات الإعلامية الأميركية يشير إلى أن المواجهة الفعلية هي مع الجمهورية الإسلامية في إيران وهذا ما أكّده ضيف أميركي له علاقات مع الخارجية الأميركية على محطة الميادين في إطلالة شاركنا فيها منذ حوالي شهرين.
مواجهة الجمهورية الإسلامية أصبح ضرورة لدى الدولة العميقة في الولايات المتحدة لأنّ هيكلية وجودها في سورية والعراق مهدّد بسبب المقاومة. والعمود الفقري للمقاومة في التفكير الأميركي هو إيران لذلك كسر إيران أصبح هدفاً استراتيجياً ملحّاً للحفاظ على التمركز العسكري. هزيمة الكيان في غزّة يعني عاجلاً أو آجلاً (في رأينا عاجلاً) خروج الولايات المتحدة من غرب آسيا وفي مرحلة لاحقة سريعة من الخليج وهذا ما لا تستطيع أن تتحمّله. لكن موازين القوّة لا يسمح لها بتغيير المعادلات في الميدان إلاّ عبر اللجوء إلى سلاح غير تقليديّ.
في الولايات المتحدة هناك مَن يعتبر أن الخروج من غرب آسيا سيساهم في تخفيف الأعباء العسكرية خاصة أن المردود السياسيّ أصبح أمراً مشكوكاً به. هذا هو موقف جماعة ترامب. لكن في المقابل هناك من يعتبر أن الوجود العسكري الأميركي في غرب آسيا هو ليس فقط لحماية الكيان بل لاحتواء تقدّم الصين ومشروع الحزام الواحد كما هو ضرورة لاحتواء روسيا من الجنوب. هدف تدمير سورية كان لمحاصرة روسيا والتدخّل الروسي في سورية كان لحماية أمنها القومي. فالمواجهة بين روسيا والولايات المتحدة أصبحت أكثر قرباً مما كانت عليه في الماضي، حيث كان الطرفان متفقين على ضبط إيقاع المواجهة في سورية. اما اليوم، وبعد التصعيد الكلامي والعملياتي الأميركي في شرق أوروبا وخاصة بعد الاعتداء الأوكراني على شبه جزيرة القرم ومحاولات التوغّل الأوكراني في العمق الروسي في استهداف محيط مدينة كورسك فإنّ حالة السلم لم تعد قائمة بين روسيا والولايات المتحدة، كما أبلغ وزير الخارجية الروسي سرغي لافروف سفيرة الولايات المتحدة في موسكو. والقرار الصادر عن الكرملين بتسليح كل مَن يناهض الولايات المتحدة في غرب آسيا وفي العالم يعني اقتراب المواجهة بين الدولتين. أما الانعكاس على أرض المعركة فهو ارتفاع كلفة أي مغامرة بل مقامرة صهيونية وأميركية ودون تحقيق أي نتائج بالوسائل التقليدية.
السؤال الذي يجب طرحه هو لماذا هذا الخيار العبثيّ الذي لن تنجو من تداعياته المدمّرة الولايات المتحدة إقليمياً ودولياً؟ في رأينا، فالاعتبارات الداخلية وخاصة الاستعصاء في مقاربة الملفّات الشائكة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لأسباب شرحناها في العديد من الأبحاث والمقالات لا نريد الخوض فيها الآن، فهذه الاعتبارات هي الدافع الأساسي للهروب إلى الأمام. الإخفاق في مواجهة الاستحقاقات الداخلية يعني فشل النموذج الأميركي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وهذا ما لا تستطيع الإقرار به النخب الحاكمة والدولة العميقة. وهذا الفشل الأميركي هو فشل النموذج الغربي بشكل عام. وهذا ما عبّر عنه بوضوح نتنياهو بأن المواجهة في فلسطين هي مواجهة بين الغرب المتحضّر وقوى البربريّة على حد قوله. وهذا الكلام هو صدى للسردية السائدة عند النخب الحاكمة في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة، حيث المواجهة مع روسيا هي مواجهة بين “القيم الغربية والتسلط الاستبدادي” الشرقي سواء مع روسيا أو الصين أو كوريا الشمالية أو الجمهورية الإسلامية في إيران. فالصراع هو مواجهة وجودية لحضارة غربية تحتضر بينما المنظومة الشرقية تعود إلى الصدارة سياسياً واقتصادياً وخاصة قيمياً.
ما يلفت النظر هو تلازم الكلام حول اللجوء إلى سلاح غير تقليديّ مع الكلام لإعادة فرض التجنيد الإجباريّ المطروح بأشكال مختلفة في الولايات المتحدة. واستباقاً لأي معارضة لذلك تقوم الدولة العميقة بتكثيف الإجراءات والسرديات التي تهدف إلى تقويض حرّية التعبير وخاصة في المنصّات الخاصة كما تقوم أجهزة الدولة العميقة بالتضييق الفجّ على كل المعارضين البارزين لسياسات الإدارة المروّجة لتلك السياسات. وفي هذا السياق نشير إلى مداهمة منزل الخبير العسكري سكوت ريتر الذي أصبح من أهم الناقدين لسياسات الإدارة والكيان الصهيوني في كل من أوكرانيا وغزّة. كما هناك مضايقات للمرشحة السابقة للرئاسة في الحزب الديمقراطي تُلسي غابارت التي حطّمت كمالا هاريس في المناظرة التمهيدية في حملة 2020 فأجبرتها على الخروج من السباق الرئاسي قبل أن يختارها في ما بعد جوزيف بايدن كنائب رئيس له. وتُلسي غابارت ناقدة لسياسات الإدارة في أوكرانيا وغرب آسيا وصاحبة مصداقيّة كبيرة لخدمتها في القوّات المسلحة حيث خرجت برتبة رائد.
من هذا المنظور يصبح الحديث عن أي “تسوية” نوعاً من الإلهاء لتقطيع الوقت لأن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني غير معنيّين بها إلاّ لكسب الوقت لإعداد المناخ السياسي الداخلي في الولايات المتحدة والغرب عموماً حول “ضرورة” كسر التوازن القائم عبر اللجوء إلى سلاح غير تقليديّ. من هنا نفهم ترويج الكلام عن النووي “التكتيكي” وإن كان الفرق بين التكتيكي والاستراتيجي خيطاً رفيعاً لا يستطيع أحد تحديده. فهل تنجح الولايات المتحدة المضي في هذا الخيار؟ لا نعتقد ذلك لأن هناك صعوبات داخلية كبيرة كوعي شرائح واسعة من مكوّنات الشعب الأميركي حريصة على الحفاظ على حرّية التعبير ومعارضة لأي تدخّل عسكري. فليس من السهل التهجّم على البند الأول من الدستور الأميركيّ الذي يصون حرّية التعبير والذي يشكّل ركيزة وجود الكيان الأميركيّ. فمهما حاولت قوى الدولة العميقة فليس من المؤكّد أنّها تستطيع تقويض الحرّيات بشكل فجّ للمضي في سياسات عبثيّة قد تؤدّي إلى زوال الولايات المتحدة.

*باحث وكاتب اقتصاديّ سياسيّ

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى