الأميركي لا يملك خطة
ناصر قنديل
– قد يعتقد كثيرون أن الحديث عن فقدان الأميركي للخطة نوع من المبالغة والاستخفاف بحجم التخطيط الذي تتميز به الدولة الأقوى في العالم، وسوف يجيب الكثيرون بأن أميركا دولة السيناريوهات العديدة والخطط البديلة والعقول الصناعية والذكاء الصناعي، لا يمكن وصفها بدولة بلا خطة، لكن من يتابع السياسات الأميركية والحروب الأميركية سيتفهّم الاستنتاج بأن أميركا بلا خطة.
– تملك أميركا خطة تنفيذية تفصيلية تقنياً للحرب عندما ترسل قواتها للقتال أو ترسل أساطيلها لفرضية مواجهة كما هو الحال الآن، لكن هل تملك أميركا خطة متكاملة للجواب عن كل الفرضيات التي قد تواجهها القوات او الأساطيل؟ والجواب هو لا، بدليل ما جرى بعد طوفان الأقصى ومجيء الأساطيل بمهمة منع فتح جبهات الإسناد، ولما فتحت جبهات الإسناد اضطرت أميركا للدخول باشتباك مع اليمن كانت نتيجته سقوط لصورة الردع الذي تحرص عليه ما منعها من توسيع دائرة المواجهة، وربما تكون هذه المرّة قد قرّرت فعل العكس وتنخرط في تقديم الحماية لكيان الاحتلال من الطائرات المسيّرة والصواريخ الإيرانية وعندما تفشل في تقديم الحماية المطلوبة لا تملك جواباً عما يجب أن تفعل.
– عندما قرّرت واشنطن منع تطبيق اتفاقات مينسك حول أوكرانيا، ونفذت لها ألمانيا وفرنسا ذلك، ودفعت حكومة كييف لاستفزاز موسكو باستهداف سكان شرق أوكرانيا ذوي الأصول الروسيّة، كانت تريد استدراج روسيا الى الحرب، وكانت تملك خطة تنفيذيّة تفصيلية تقنياً لكيفية تحويل انخراط روسيا في خوض الحرب على أوكرانيا إلى سبب يبرر فرض حزمة عقوبات قاتلة على الاقتصاد الروسيّ والمصارف الروسيّة، وكانت كل السيناريوات أمامها تقول بأن ذلك سوف يؤدي إلى انهيار العملة والمصارف والاقتصاد، وبالتالي النظام، لكن عندما لم يحدث الانهيار وتمكنت روسيا من احتواء العقوبات وتحويلها من تحدٍّ الى فرصة، لم يكن لدى واشنطن إلا التعامل مع الحرب يوماً بيوم، لتكتشف في يوم من هذه الأيام أن ليس لديها من الذخائر ما يكفي لتلبية الاحتياجات الأوكرانية لمواصلة الحرب.
– خططت واشنطن جيداً لكيفيّة غزو أفغانستان والعراق، لكنها بعد شهور من غزو العراق بدأت تتحدّث عن مأزق وفشل، واحتاج منها الاعتراف بالفشل في أفغانستان الى عشرين سنة من الأثمان المالية والبشرية لتقول في نهايتها بلسان رئيسها جو بايدن، لو بقينا عشرين سنة أخرى لن يتغيّر شيء، وهي كذلك دائماً تقنياً تتميز بتخطيط دقيق ومحسوب، لكنها سياسياً محكومة بفرضية التفوق والغرور وادعاء القدرة على الإنجاز، وعندما تصطدم بالعجز والفشل تكابر وتبقى في حال إنكار طالما هي قادرة على دفع الثمن، وتحتاج إلى بلوغ مرحلة العجز عن دفع الثمن وليس فقط العجز عن النجاح حتى تعترف بالفشل.
– في الحرب على سورية كم كان التخطيط ذكياً لإغراء تركيا بالعثمانية الجديدة؟ وكم كان ذكياً التخطيط لإطلاق الربيع العربي وتحويله إلى ربيع يقوده الأخوان المسلمون في عدد من الدول العربية؟ وكم كان التخطيط ذكياً لضمان تدحرج كرة النار نحو سورية؟ وكم كان التخطيط ذكياً لحشد مئة دولة ومئة جهاز مخابرات ومئة فتوى ومئات المليارات من الدولارات ومئات الآلاف من الإرهابيين؟ لكن الخطط لم تضع في حسابها فرضيات الفشل، ونجاح سورية بالصمود ثم باستنهاض حلفائها وانخراطهم في الحرب دفاعاً عنها وعن موقعها الجيوسياسي، وعندما حدث ذلك فشلت الخطة، وأفلتت الطريدة كما قال سكرتير الحرب حمد بن جاسم، لكن واشنطن احتفظت بالمكابرة وبقيت على حال الإنكار، مكتفية بتعطيل فرص الحلول رغم يقينها بلا جدوى الرهان على تغيير الموازين، طالما أنها قادرة على دفع ثمن البقاء، بانتظار أن تصل الى العجز عن دفع فاتورة البقاء فتعلن سحب يدها، كما فعلت في أفغانستان.
– لا يستطيع المغرومون بأميركا وعقولها ومخابراتها وذكائها الصناعي إنكار أنها فوجئت كما فوجئ كيان الاحتلال بطوفان الأقصى، رغم أن التحضيرات التنفيذية لخطة إنجازه امتدت لسنتين، وهي لم تتوقع سياسياً أن يحدث شيء يصيب ما وصفه مستشار الأمن القومي لرئيسها جاك سوليفان بتجميد الشرق الأوسط بفضل عبقرية الرئيس جو بايدن للتفرّغ لمواجهة روسيا والصين، كما كتب في مقال شهير كتبه لمجلة فورن افيرز قبل أيام على طوفان الأقصى، ولما جاء الطوفان حاول تصحيح المقال لكن بقيت آثار السذاجة والبعد عن الواقع غير قابلة للإخفاء، وهي كذلك فوجئت بنتائج الحرب في غزة واستمرارها عشرة شهور، وفوجئت بقدرة المقاومة في جبهة لبنان، وبما جرى على جبهة اليمن، وكيف خسرت معركة الردع في البحر الأحمر، وما يمثل على صعيد الاستراتيجيات الأميركية؟
– تملك أميركا خطة تنفيذية تفصيلية تقنياً لكيفية إدارتها للمفاوضات التي دعت لانعقادها تحت عنوان اتفاق غزة، وهي تأمل منها الكثير، ليس للتوصل الى حل، بل لتأجيل الردّ المقرّر من إيران وقوى المقاومة على كيان الاحتلال، ولا مانع لدى واشنطن من عقد جلسات يتمّ فيها التفاوض لأجل التفاوض، ولكنها لا تملك خطة للجواب عن سؤال، ماذا لو بقيت حركة حماس تشترط للدخول في المفاوضات إنهاء التفاوض بين واشنطن وتل أبيب على نص اتفاق يعتبر منجزاً بالنسبة لحماس، خصوصاً بما تضمنه قرار مجلس الأمن الدولي الذي تبنّى خطط الرئيس الأميركي وفصل بنودها، ويكون على واشنطن أن تختار بين فشل المفاوضات أو الضغط على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وهي قد منحته كل أسباب التشدد، سواء بالضوء الأخضر لما قام به من اغتيالات أو بما يشعر به من قوة مع رؤية الحشود الأميركية الآتية بهدف تقديم الحماية له ولجيشه وكيانه.
– غرور القوة أكبر قاتل لذكاء الأقوياء.